مقابلة مع الاب بشار متي وردة مدير معهد شمعون الصفا الكهنوتي في عنكاوا بمناسبة سنة الكهنوت
س1: كيف تتم تنشئة التلاميذ في الإكليريكية؟ وما هي مراحل هذه التنشئة؟ وهل لديكم برنامج مٌعيّن لذلك؟
أنت تعرفون أنه منالصعب الإحاطة بمفردات التنشئة المُقدمة في المعهد الكهنوتي، ولكنني سأحاول ذكرَ الأسس، تاركاً التفاصيل لمقامٍ لاحق.
نتعامل كإدارة المعهد مع شباب تتفاوت أعمارهم ما بين 19 – 26 كمعدل، مع إمكانية قبول الدعوات المتأخرة وفق شروط يُتفَق عليها مع الأسقف صاحب العلاقة. نحن واعون أنهم جيّل مُتميّز بحضارة وفكر وتطلّعات تختلف عن سابقيه، لذا ليس في رؤيتنا “نسخ” شخصية كهنوتية على الجميع، لأننا نحترم شخصية وخصوصية كل واحد منهم. وتُبرِز سنوات التنشئة الأولى ملامح الشخصيات وتُظهِر تمايزها، فنتعامل معها على صعيد شخصي، فالتنشئة هي موجهة نحو شخصية في الجماعة، وإيماننا منّا بأهمية حضور الجماعة (الكنيسة) في حياة التلميذ (الكاهن مُستقبلاً). فنسعى لزرع قيم إنسانية في هذه الشخصية أهمّها في نظرتنا هي “قدرته على تحمّل مسؤولية حياته ككاهن”، فهذه تنشئة لكل الحياة وليست موجّهة لفترة معينة. ومعنى المسؤولية بالنسبة لنا هو الوعي بأن الكنيسة ستسألني عن شخصيتي ورؤيتي وقناعاتي وقراراتي وسلوكياتي، لتأتي متوافقة مع إنتظارات الكنيسة. هنا، يُنشى التلميذ ليكون له فكرُ المسيح يسوع، فيتحمّل مسؤولية النداء الموجّه إليه على نحوٍ شخصي.
أضف إلى ذلك، أننا عملنا كفريق مع مُتخصصين وكهنة آخرين لإعداد نظام داخلي للمعهد ودليل للتنشة الكهنوتية مُستفيدين من خبرات معاهد إكليريكية أخرى في لبنان ومصر وإيرلندا والولايات المتحدة الأمريكية وعلى المراجع الهامّة في هذا لموضوع والتي صدرت عن الكنيسة منها رسالة البابا يوحنا بولس الثاني “أعطيكم رُعاة” والتي صدرت عام 1992 والتي تُعد أهم مصدر للتنشئة الكهنوتية في الأحوال الراهنة، والوثائق التي تلتها والتي صدرَ معظمها عن مجمع التربية الكاثوليكية.
س2: هل تأخذون بنظر الإعتبار في التنشئة، الأوضاع الثقافية والروحية في المجتمع، وبالتالي ما يتطلّبه من تنشئة معمّقة وطويلة الأمد، كي يكون للكاهن مخزوناً لاهوتياً وفكرياً ورعوياً وإنسانياً؟
أولاً أود أن أؤكد أن صورة الكاهن “العارف بكل العلوم” لم تعد واقعاً ينتظره الشعب من الكاهن، فهناك متخصصون في كل العلوم والمجالات، ولكن المجتمع ينتظر من الكاهن أن يكون مُتخصصاً في مجاله الرعوي واللاهوتي، لذا أضحى التركيز على هذا الجانب مهمّاً جداً أكثر من غيره، وفي نظرة سريعة مقارنة للدروس الفلسفية واللاهوتية التي كان كانت تقدّم في المعاهد اللاهوتية قبل ثلاثين سنة واليوم نجد أن هناك أكثر من 15 كورسات إضافية على البرنامج.
ثانياً نحن لا نسعى إلى تخزين المعلومات بل نتطلّع إلى أن يتعلّم التلميذ فنون المُطالعة والدرس لتبقى هذه معه كل الحياة، عارفين أن أسلوب تعاطي الشباب اليوم مع المعلومة وطُرق الحصول عليها أختلف عن ما كان في السابق. ثم أن تعايش الأساتذة مع الطلبة خلال فترة تقديم الكورسات يُعطي شهادة حيّة لأهمية المطالعة ومواكبة الجديد في المجال اللاهوتي والرعوي.
ثالثاً إهتمام الإدارة بالمكتبة له أثره الطيّب في نفوس التلاميذ إذ يجعلهم في تواصل مع ما يصدر من كتب ومراجع في مجال اللاهوت والحياة الروحية والرعوية للكاهن.
رابعاً علينا أن نُشير إلى الدورات اللاهوتية التي تُقدم للشبيبة اليوم تجعل الكهنة أمام تحديات جديدة إذ ترفض حصر التثقيف اللاهوتي بالإكليروس ليكون في متناول الجميع وهذا يُثير في الجميع جُملة تساؤولات على الكاهن أن يكون مُتأهباً ليُعطي أجوبة تُفهِم السائل معنى أن يكون مسيحياً اليوم.
س3: الحاجة اليوم إلى كهنة ناضجين إنسانياً وعاطفياً، فاضلين كهنوتياً، مُثقفين يُسايرون أبناء جيلهم، منفتحين ورجال علاقات وحوار وصلاة.
تُعد التنشئة الإنسانية أساس التنشئة الكهنوتية لأننا واعون لخطورة أن يكون الكاهن مُتخصصاً في اللاهوت على سبيل المثال ولكنه مُتكبّر أو مُتعجرف لا يعرف الحوار بل يجعل من ذاته مركز العالم والمعيار الأمثل للحقيقة فيذكر لك ضمير “الأنا” أكثر من ذكره للمسيح ولله وللكنيسة! الناس ما زالت تتأثر بكاهن قريب إلى قلوبهم وهمومهم بكلمة وعبارات ومواقف إنسانية ومسيحية ورعوية مُتميزة. كاهن يمتلك من المصداقية والشفافية الكثير ليكون إنموذجاً يُحتذى به. كاهن على “حسب قلب الله” يسير امام أنظاره بتواضع ولطُفٍ ومُسالمة. كاهن يُدرك أهمية العلاقات الإنسانية ويتعامل معها بمسؤولية.
لذا نرغب جداً أن يتعلّم التلميذ قيماً إنسانية تُؤهله ليقبل نداء ربنا صافياً غير ملوّث بالأنا وألعيبه. تُريد الكنيسة من الكاهن أن يكون متواضعاً أمام الله والناس، مُلتزماً وصاحب موقف، مسؤولاً وذو شخصية أصيلة، نزيهاً ورجل مبادئ، سخياً في العطاء، عادلاً في أحكامه، جريئاً في قول الحقيقة في المكان والزمان الصحيح، مُعتدلاً وقنوعاً تطلّعاته، ذو مروءة وشهامة، قلبه يسع للجميع فيعرف كيف يُسامح ويغفر.
إني كراهب أفهم أن المشورات الإنجيلية (العفة والفقر والطاعة) صالحة دوماً للتنشئة الكهنوتية خاصة إذا ما تعلّم التلميذ أن الله دعاه ليكون صاحب الحب العفيف الخالي من المصالح الأنوية، فيكون أكثر الناس محبة. ربنا دعاه ليكون غنياً في العطاء فلا يحتفظ لنفسه إلا بحبِ الناس له، لذا فهو الأفقر والأغنى بين الناس. إلهنا ناداه ليكون الأنقى في الإصغاء لكلمته ولهموم شعبه لذا فهو أكثرهم طاعة.
س4: حول هوية الكاهن، هل هناك اليوم أزمة هوية الكاهن كما يُسمها البابا يوحنا بولس الثاني؟
كما أشرنا أن صورة الكاهن اختلفت عمّا كانت عليه في السابق، والتحديات الإنسانية والرعوية واللاهوتية كثُرت وهذا يجعلنا أن نُعيد النظر فيما نُقدمه للتلاميذ ليأتي مواكباً لها. وإذا ما أردنا الحديث عن “أزمة الهوية” في مجتمعنا الشرقي على نحوٍ عام والعراقي على نحوٍ خاص، فأجدها متأثرة بالوضع الإجتماعي والسياسي والإقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط. فالهجرة جعلت الكاهن ومؤسسات التنشئة الكهنوتية والرهبانية تتسأل عن شكل التنشئة المُقدم للتلاميذ: هل أننا نُعدُ كهنة للعراق أم للمهجر؟ أي أزمات سيتعايش معها هذا التلميذ في الغد؟ ما نوع التحديات الرعوية التي سيتعامل معها؟ هل نحُضّره ليكون موظفاً كنسياً وإدارياً ناحجاً أم راعياً مُتفهماً لأزمات الناس ومشاكلهم؟
س 5: ثمة جانب مهم لا يُعار الكثير من الإهتمام هو جانب التنشئة الوطنية، ألا يجب أن نعمل على تنشئة كاهن الغد على كيفية التعامل مع الواقع السياسي، أن يكون شاهداً للحق في الحياة السياسية، لا طرفاً في النزاعات؟ وأن يقف على مسافة واحدة من جميع الأحزاب السياسية على الساحة؟
تُسعفنا الكنيسة في وثائقها الخاصة بالقضايا الإجتماعية بتعليمٍ واضح حول المواقف التي يجب على الكاهن ان يتحلى بها إزاء القضايا السياسية. تؤكد الكنيسة على ضرورة أن يمتلك الكاهن رؤية عن السياسة ودهاليزها وأن يكون مُدافعاً لجوجاً عن كرامة كل إنسان والخير العام أينما كانت، على أن لا يتوّرط باي برنامج سياسي لحزبٍ أو طائفة، وأن يحفظ نفسه وشعبة فلا يكون طرفاً في نزاعٍ أو قضية سياسية الهوية. أتطلّع ليقرأ التلاميذ حضورنا في الشرق الأوسط على نحوٍ منفتحٍ ونكون رواد في الحوار وخلق فرص التقارب بين وجهات النظر المُتباينة.
فتأتي التنشئة على تربية حسَّ الإنتماء كمرحلة أساسية ليتعلق الطالب بأرضه وحضارته وتقاليده، فينطلق من هذه الخصوصية لينفتح الى الكنيسة الأوسع من الكنيسة التي قدّمته للكهنوت. لذا، لم تنقطع زيارات الطلبة إلى قُرانا ومُددنا المسيحية الكبيرة خلال فترة تواجدهم في المعهد، وسنحت لهم الفرصة للتعرّف على الكنيسة في روما على سبيل المثال، ليُدركوا أن الإنطلاقة من الرعية المحلية أساسية لتحقيق الشركة مع الكنيسة بشموليتها.