مقدمة
يجهل بعض المسيحيين -ان لم اقل معظمهم- تعاليم الكنيسة ومواقفها حول القضايا الاخلاقية الملحة بل والخطيرة التي تواجههم في الحياة، مثل قضايا الطلاق والاجهاض والتلقيح الاصطناعي (اطفال الانابيب) وغيرها. ولا يتردد البعض باتهام الكنيسة الكاثوليكية بالتشدد والرجعية في مواقفها ازاء هذه القضايا في زمن يصبو الانسان سيد نفسه، مكتفيا بما يراه هو ويحلله لنفسه دون العودة الى الكنيسة وتعاليمها، اللهم اذا ما اضطر الى ذلك. نتطرق هنا الى موضوع أني خطير هو الاجهاض لنتعرف عليه وعلى انواعه، ونتوقف عند تعليم وموقف الكنيسة الكاثوليكية من الاجهاض؟ ثم نعرج على ما يقع من واجب على عاتق الدولة في حماية الحياة قبل الولادة؟
الاجهاض وانواعه
يعرف الاجهاض بانه انهاء حياة الجنين، بينما هذه الحياة هي حياة كائن بشري. وهي جريمة قتل. وفي اغلب الحالات فان السبب يعود الى “حمل غير متوقع”، وغالبا ما تدفع المرأة الثمن وهي في حالة مؤلمة نتيجة لذلك.
الاجهاض على انواع، منها اللاإرادي ومنها الارادي المتعمد والارادي غير المتعمد: واضح ان من يقوم بإجهاض لاإرادي لا يتحمل اي مسؤولية اخلاقية، لان وقف الحمل وانزال الجنين، لا يكون بإرادة احد، وانما لأسباب اخرى منها طبيعة الجنين الهزيلة والضعيفة، او طبيعة او صحة الام التي تؤدي الى موت الجنين في الرحم. ويتم التخلص من الجنين الميت بعملية تدعى تنظيفات الرحم. وبقاء الجنين الميت في الرحم يتسبب في تسمم احشاء الام. لذلك يجب متابعة فترة الحمل والانتباه الى حياة الجنين، والتخلص منه في حال موته داخل الرحم بأسرع ما يمكن. وهنا لا تتحمل الام او الطبيب اي مسؤولية اخلاقية.
اما الاجهاض الارادي، متعمدا كان ام غير متعمد، فهو غير جائز اخلاقيا. ويعتبر من يساهم في هذا الاجهاض الارادي محروما كنسيا، وللأسقف وحده فقط ازالة هذا الحرمان. والمقصود هنا هو عملية ايقاف استمرار حمل المرأة بطريقة ارادية وبوسائل خارجية، وهو ايضا تدمير متعمد للجنين قبل الولادة، او قطع عملية الحمل في احدى مراحلها وعزل الجنين وطرده من الرحم.[1]
هل من نص واضح في الكتاب المقدس يتحدث عن الاجهاض؟
لا توجد في الكتاب المقدس نصوص واضحة تتحدث عن الاجهاض المتعمد. لكن الكتاب المقدس يؤكد على وصية “لا تقتل”، التي تشمل الاجهاض ايضا، والكنيسة بدورها تشدد عليها كقيمة اخلاقية ثابتة.
هذا الموقف الصامت للكتاب المقدس، رغم وجود آيات تشيد بقيمة الجنين ومكانته لدى الله، استغله البعض واخذ يدعو الى تشريعه. والكنيسة الكاثوليكية اذ تقدر خطورة الموقف فأنها لم تزل تدافع عن حق الحياة، ولا تعطي الانسان هذا الحق في الاجهاض وقتل الجنين، فيقول المجمع الفاتيكاني الثاني بهذا الخصوص: “ان الله سيد الحياة، عهد الى البشر بخدمة الحياة الشريفة، فيجب المحافظة عليها منذ الحبل وبعناية قصوى، فالإجهاض وقتل الطفل جرائم فظيعة”.[2] وفي السياق نفسه يذكر البابا الراحل بان الله وحده هو سيد الحياة، حيث يقول ان: “حياة الانسان مقدسة لأنها تفترض منذ البدء عمل الله الخلاق وتظل ابدا في علاقة خاصة مع الخالق. فالله هو سيد الحياة من بدايتها حتى نهايتها”.[3] وفي موضع اخر من نفس الرسالة يشير البابا يوحنا الى ان: “كل نية تتعمد الاجهاز على حياة بشرية بريئة هي دوما عمل سيء من الناحية الادبية، ولا يمكن تسويغها لا كهدف ولا كوسيلة لهدف جيد. انها انتهاك ثقيل للشريعة الادبية، بل هي تمرد على الله خالقها وحاميها. وهي تناقض فضيلتي العدالة والمحبة مناقضة جوهرية: ليس ثمة شيء ولا احد بإمكانه ان يسوغ قتل كائن بشري بريء، أنطفة كان ام جنينا”.[4]
تعليم الكنيسة
توصي الكنيسة بضرورة: “…احترام الحياة البشرية وصيانتها على وجه مطلق منذ وقت الحبل. وتشدد على الاعتراف للكائن البشري، منذ اول لحظة من حياته، بحقوق الشخص، ومنها الحق في الحياة الذي لا يمكن تخطيه، والعائد لكل كائن بريء”.
“قبل ان اصورك في البطن عرفتك وقبل ان تخرج من الرحم قدستك” (ارميا1 : 5).
“لم تخف ذاتي عليك، مع اني صنعت تحت حجاب ورقمت في اسافل الارض” (مز 139: 15).
وحول بقاء الكنيسة على موقفها منذ القرن الاول فيما يخص الاجهاض، يقول كتاب التعليم المسيحي: لقد اكدت الكنيسة منذ القرن الاول شر كل اجهاض مفتعل على الصعيد الاخلاقي. وهذا التعليم لم يتغير. وهو باق دون تعديل. الاجهاض المباشر، اي الذي يريده الانسان غاية او وسيلة، يتعارض بوجه خطير مع الشريعة الاخلاقية:
“لا تقتل الجنين بالإجهاض، ولا تهلك المولود الجديد”.
“ان الله سيد الحياة والموت قد عهد الى البشر في مهمة الحفاظ على الحياة، وهي مهمة شريفة يجدر بالإنسان ان يقوم بها قياما يليق به. فالحياة منذ وجودها بالحبل، يجب الحفاظ عليها بكل عناية. الاجهاض وقتل الاجنة هما جريمتان منكرتان”.
واستنادا الى ذلك فان الكنيسة تجرم كل من ساعد في هذه الجريمة، مشيرة الى ان، المساعدة الفعلية على الاجهاض هي ذنب جسيم. والكنيسة تعاقب بعقوبة الحرم القانونية هذا الاجرام الى الحياة البشرية. “من يفعل الاجهاض يصبه، اذا حصلت النتيجة، الحرم حكما”، “بذات فعل ارتكاب الجرم” وبالشروط التي وضعها الحق الكنسي. والكنيسة لا تريد هكذا تضييق مجال الرحمة. وانما تظهر جسامة الجرم المرتكب، والاذى الذي لا يمكن تعويضه اللاحق بالبريء المقتول، وبوالديه وبالمجتمع كله.
ويؤكد التعليم مشددا على ان، حق كل فرد بشري بريء في الحياة، الذي لا يمكن التنازل عنه، هو عنصر من العناصر المكونة للمجتمع المدني وتشريعه:
“يجب ان يعترف المجتمع المدني والسلطة السياسية وان يحترما حقوق الشخص التي لا يمكن التنازل عنها. وحقوق الانسان ليست متعلقة بالأفراد، او الوالدين، وليست تنازلا من المجتمع او الدولة؛ انها تخص الطبيعة البشرية وهي ملازمة للشخص بفعل الخلق الذي منه تستمد اصلها. وبين هذه الحقوق الاساسية، لا بد من تسمية الحق في الحياة والطبيعة المكتملة لكل كائن بشري منذ الحبل حتى الموت”.
“عندما تحرم شريعة وضعية فريقا من الكائنات البشرية من الحماية التي يجب ان يوفرها لهم التشريع المدني، تبلغ الدولة حد انكار مساواة الجميع امام الشريعة. وعندما تمتنع الدولة عن وضع قوتها في خدمة حقوق جميع المواطنين، ولا سيما الاضعف بينهم، تصبح اركان دولة الحق ذاتها مهددة.. وعلى الشريعة، بنتيجة الاحترام والحماية الواجب تأمينها للولد منذ الحبل به، ان تعد عقوبات جزائية مناسبة على كل مخالفة متعمدة لهذه الحقوق”.
واذ يستوجب معاملة الجنين منذ الحبل به كشخص، فلا بد من الدفاع عن سلامته الجسدية، ورعايته وشفائه قدر المستطاع، مثل اي كائن بشري اخر.
من الجائز اخلاقيا اجراء الفحص الذي يسبق الولادة، “اذا احترم حياة الجنين البشري وكماله الطبيعي، واذا كان يهدف الى حمايته او شفائه الفردي.
اذا، “يجب اعتبار الاجراءات على الجنين البشري جائزة، شرط ان تحترم حياة الجنين وسلامته الجسدية، وان لا تسبب له اخطارا اكبر، بل ان تهدف الى شفائه او الى تحسن اوضاعه الصحية، او الى ابقائه على قيد الحياة”.[5]
لماذا هذا الموقف المتشدد من الاجهاض؟ هل الجنين هو انسان كامل؟
ثمة من يبرر الاجهاض ويقول ان الجنين ليس انسانا كاملا. وقبل عقود قليلة، كان التصور السائد ان الجنين لا يملك شعورا او احساسا، لكن الدراسات اثبتت العكس واكدت على وجود الشعور والاحساس لديه. بل واثبتت الابحاث العلمية ان الجنين يشعر بالألم الشديد، خاصة اثناء القيام بعملية الاجهاض.
ان موقف الكنيسة الاخلاقي يقول، ان الجنين منذ اللحظة الاولى هو انسان حي وتفاض فيه الروح منذ تلك اللحظة. وبالرغم من عدم اكتماله وعدم تمتعه في البداية بمواصفات الشخص العادي، اي الاستقلالية والوعي والنطق. فله الحق في ان يحترم وفي ان يفسح له المجال كي يشق طريقه نحو الاكتمال. فمنذ اللحظة الاولى من ظهور الجنين، وهو ما يزال خلية صغيرة يصعب رؤيتها حتى بالمجهر الاكثر تطورا، يجب ان يحظى بالاحترام الذي نكنه عادة للشخص الانساني البالغ. هذا الاصرار على احترام الخلية الصغيرة يدفعنا الى رؤية الشخص الانساني في جميع مراحل تطور حياته.[6]
ماذا عن حالات الاغتصاب او العوق؟
حتى في حالة الاغتصاب، لا يجوز الاجهاض بتاتا، فلا يمكن اصلاح خطا ما باخر يفوقه فظاعة وجسامة. على الجميع ان يدافع عن هذه الحياة الجديدة مهما كانت الاسباب. ولا بد من التفكير بإيجاد حلول واقعية تتناسب والحالة الجديدة، مع واقع طفل ينتظر النور، هي افضل من قتل الجنين. اما ما يخص المولود المعاق، فالاعتراض يبنى عادة انطلاقا من تهرب الاهل من المسؤولية ومن الاعتناء بأبنائهم المتألمين، او تهرب الدولة من الاعباء التي تفرضها حالة هذا الانسان المعاق. فالإنسان المريض بحاجة الى رعاية واهتمام، ولا يحق باي حال من الاحوال التخلص منه بحجة الشفقة عليه.[7]
لا يسعنا هنا الا ان نتذكر ما ورد في الوثيقة الصادرة عن الكرسي الرسولي بمناسبة السنة العالمية للمعاق: “المبدأ الاول الذي لا بد من التأكيد عليه بوضوح وقوة هو ان الشخص المعاق (سواء حصلت الاعاقة خلقة منذ ولادته ام تأتت عن مرض مزمن ام عن حادث ام عن تخلف عقلي ام عن عطب في الحواس، ومهما بلغت اهمية هذه الاصابات) هو شخص بشري بكل معنى الكلمة مع كل ما يتبع ذلك من حقوق طبيعية يجب عدم مسها. ويرتكز هذا التأكيد على الاعتراف الراسخ بان للكائن البشري بحد ذاته كرامة فريدة وقيمة سامية وذلك منذ الحبل به، واثناء مراحل نموه، مهما كانت حالته الصحية”.
واجب الدولة في حماية الحياة قبل الولادة
ان من واجب ومسؤولية كل دولة ان تحمي الحياة الانسانية على انها حق اساسي. وبنوع خاص أولئك الذين لا قدرة لهم على الدفاع عن انفسهم، وتحديدا من لم يولدوا بعد، كونهم يشكلون اضعف حلقات المجتمع، لذلك لا بد للدولة من توفير الحماية الخاصة لهم. ان قتل حياة انسانية قبل الولادة هو انتهاك لحرمة الحياة وللأسس الجديرة بالحماية التي ترتكز عليها دولة الحق. ومن المفارقة ان تقوم الدول بالاقتصاص ومعاقبة المخالفات البسيطة اليومية (كمخالفات السير)، فيما لا تابه ولا تعير اهتماما لقتل الحياة البشرية![8]
وبالعودة الى التاريخ، نجد هيبوقراط[9] وهو يدعو تلاميذه الى تأدية هذا القسم: “لن اعطي احدا سما قاتلا، وان طلب مني ذلك. ولن امنح احدا نصيحة مذمومة مثل هذه. وكذلك لن اهب امرأة وسيلة للقضاء على حياة في اولها”. ونجد صدى لهذا القسم في تصريح لرابطة الاطباء الدولية في اوسلو عام 1970: “المبدأ الاخلاقي الاسمى المفروض على الطبيب هو احترام الحياة البشرية، كما عبرت عنها جملة واردة في قسم جنيف: سأكن اقصى الاحترام للحياة البشرية منذ اللحظة الاولى للحبل بها”.[10]
خاتمة:
دعوة مصالحة للنساء اللواتي عمدن للإجهاض ختاما لهذه الاسطر نقتطف هذه الكلمات للقديس يوحنا بولس الثاني وهو يدعو الى الندامة والمصالحة والعودة مجددا الى الله: “اود ان اوجه اليكن التفاتة خاصة، ايتها النساء اللواتي عمدن الى الاجهاض. فالكنيسة تعرف الظروف الكثيرة التي قد تكون قد ضغطت على قراركن، وهي لا تشك في ان هذا القرار، في كثير من الاحوال، كان مدعاة الى الالم والاسى؛ وجرح النفس هذا من المحتمل الا يكون قد التام بعد…افتحن قلوبكن للندامة بتواضع وثقة، ان كنتن لم تقبلن بعد على ذلك، فان ابا المراحم ينتظركن ليقدم لكن الصفح والسلام في سر المصالحة، فتدركن آنذاك انه لم يفت الاوان، ويمكنكن ان تستغفرن الطفل الذي باتت حياته في الرب، وعليكن ان تساهمن في خلق نظرة جديدة الى حياة الانسان”.[11]
[1] مجموعة مؤلفين، اخلاقيات طب الحياة، دراسات اخلاقية 4، ط2، المكتبة البولسية، بيروت 2006 ص113-114.
[2] المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء، 51.
[3] البابا يوحنا بولس الثاني، انجيل الحياة، رسالة عامة، 53.
[4] المصدر السابق، 57.
[5] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، المكتبة البولسية، جونيه 1999، 2270-2275.
[6] مجموعة مؤلفين، دراسات اخلاقية 4- اخلافيات طب الحياة، المكتبة البولسية، جونيه 2006.
[7] المصدر السابق، 125-126.
[8] المسيحية في اخلاقياتها، سلسلة الفكر المسيحي بين الامس واليوم 19، المكتبة البولسية، بيروت 1999 ص283.
[9] طبيب وكان يلقب بابي الطب، من القرن الخامس ق.م.
[10] المسيحية في اخلاقياتها، ص284.
[11] انجيل الحياة، 99.