هبة الأعضاء وزراعتها

مقدمة

في أواخر الستينات من القرن الماضي، استبشر العالم خيرا، حين تم الإعلان عن نجاح أول زرع للقلب. ومذاك بدا الخط البياني لزرع الأعضاء ونقلها بالتصاعد تدريجيا، وفتحت أفاق عريضة أمام الناس، مبشرة بمستقبل واعد.

وشهد الطب العلاجي والجراحي في هذا المجال طفرات وقفزات كبيرة، سبيلا إلى علاج وشفاء البشر، وخاصة عن طريق زراعة بعض أعضاء جسم الإنسان؛ كالكلية والقلب، والكبد، والبنكرياس، والنخاع العظمي، والقرنية، والجلد. وبذلك فتح باب اخر بعث الأمل في نفوس كثيرين للشفاء، وأصبح مصدر رضى وسعادة لكثير من المرضى الذين يعيشون تحت وطأة الآلام.

ومع هذه النجاحات في الجوانب التقنية، برزت تساؤلات كثيرة حول الجوانب الأخلاقية؛ هل يجوز هبة الأعضاء أو نقلها؟ ما هو راي الكنيسة حول ذلك؟ هل يكون النقل من واهب حي أو من واهب ميت؟ وهل يجوز بيع الأعضاء والمتاجرة بها؟

تعليم الكنيسة والبحوث العلمية

ترى الكنيسة إن البحث العلمي يدل على سيادة الإنسان على الخليقة. وللعلم والتقنية منافع ثمينة عندما يوضعان في خدمة الإنسان، ويعززان نموه الكامل لفائدة الجميع. ولكنهما لا يستطيعان أن يدلا وحدهما على معنى الوجود والتقدم البشري. فالعلم والتقنية جعلا لأجل الإنسان الذي يستمدان منه أصلهما ونموهما. وهما لذلك يجدان في الإنسان وقيمه الأخلاقية الدليل على غايتهما ووعي حدودهما.[1]

ويشدد تعليم الكنيسة على انه، لا يمكن الأبحاث والتجارب التي تجرى على الكائن البشري أن تسوغ أفعالا هي، بحد ذاتها، منافية لكرامة الأشخاص وللشريعة الطبيعية. ورضى الأشخاص الذي قد يحصل لا يبرر مثل هذه الأفعال. إن التجارب المجرات على الكائن البشري ليست مشروعا أخلاقيا، إذا عرضت حياة الشخص، أو كماله الطبيعي والنفسي، لأخطار غير متناسبة أو يمكن تحاشيها. ولا يتوافق إجراء التجارب على الكائنات البشرية مع كرامة الشخص، خصوصا إذا تم، علاوة على ذلك، دون رضى واع من الشخص أو ممن يتولون أمره.[2]

هبة الأعضاء من اجل إنقاذ الحياة

هل يمكن نقل الأنسجة والأعضاء التي تتيح إعادة الصحة لأشخاص آخرين أو إنقاذ حياتهم؟

نقل الأعضاء يكون متوافقا والشريعة الأخلاقية، إذا كانت الإخطار والمجازفات الطبيعية والنفسية الحاصلة للمعطي تتناسب والخير المطلوب للمستفيد. وإعطاء الأعضاء بعد الموت عمل نبيل وجدير بالثواب ويجب تشجيعه على انه علامة تضامن سخي. ولكنه غير مقبول أخلاقيا إذا كان المعطي، أو من يتولون أمره من أقربائه، لم يرضوا به رضى صريحا. ولا يمكن القبول، من الدرجة الأخلاقية، بالتسبب المباشر بالتشويه المولد العجز، أو بالموت للكائن البشري، حتى في سبيل تأخير موت أشخاص آخرين.[3]

ويشترط أن يمتاز هذا الفعل بالمجانية الكاملة، فنزع الأعضاء من اجل المتاجرة بها أمر غير جائز وغير أخلاقي.[4]

الناحية الأخلاقية

من الناحية الأخلاقية، يسمح لشخص حي أن يهب احد أعضائه لينقل إلى شخص آخر متى تعلق الأمر بأعضاء مزدوجة، كالكلية مثلا. ولا ينبغي الإقدام على هذا العمل إلا إذا كان لا يشكل أي خطر على حياة الواهب وصحته، ولا ينتج عنه أي ضرر جسيم يتعذر إصلاحه بالنسبة لحياة الواهب أو صحته أو قدرته على العمل. ومن جهة أخرى، ينبغي أن يكون هناك أمل راسخ بان حياة المستفيد من الهبة سوف تمدد وان حالته الصحية سوف تتحسن تحسنا ثابتا. وأخيرا، ينبغي أن يكون نقل الأعضاء الإمكانية الوحيدة لإنقاذ حياة المستفيد. وهناك شرط آخر وهو أن تكون محبة القريب هي الدافع على الهبة، وان يكون الواهب قد وافق عليها بملء حريته بعد تفكير واع، وهو على بينة من كل شيء. كثيرا ما يرفض اليوم الطب نقل عضو من واهب مازال على قيد الحياة. ولا يمكن التفكير بهذا النقل إلا في حالات قصوى نادرة تتم عن تضحية شخصية فريدة. ولا يجوز أن يحرض احد على هذا النوع من التضحية من خلال ضغط معنوي.[5]

من جهة أخرى، هناك ميل عام إلى التشديد على المجانية في تقنية هبة الأعضاء، و لاسيما في الاتحاد الأوربي. لكن هذا المبدأ يختلف من بلد إلى آخر، لاعتبارات اقتصادية. ففي البرازيل والهند ومعظم الدول النامية، يلجا الكثيرون إلى بيع عضو من الأعضاء المزدوجة في جسمهم للتخلص من الضائقة المالية والاقتصادية التي يرزحون تحت وطأتها.[6]

وهب الأعضاء بعد الموت

بلغ التطور في مجال زرع الأعضاء حدا كبيرا بحيث انشأت في معظم بلدان العالم المتطورة في الطب مراكز في المستشفيات للحصول على أعضاء من أشخاص ابدوا استعدادهم في وصيتهم إلى وهب أعضاء من جسمهم بعد موتهم، إسهاما منهم في تطور العلم من جهة، وفي إعادة الحياة إلى أشخاص لا أمل في شفائهم من جهة أخرى.[7] المسالة تختلف عندما يتعلق الموضوع بأعضاء (الكلية، أو القلب، أو الكبد) تؤخذ من أشخاص بعد موتهم ببضع لحظات ويتم زرعها في مستفيدين، مما قد يسهم في إنقاذ حياتهم أو إطالتها.

كثيرون من الناس يبدون قلقا وتحفظا عميقين إزاء وهب أعضائهم بعد موتهم أو إزاء اتخاذ هذا القرار من اجل ميت من أقربائهم. فيعتقد البعض ان احترام الجسد الميت يمنع كل انتهاك لوحدة الميت الجسدية. ويتخوف البعض من أن يعلن موت الشخص المحتضر قبل الأوان.

من الناحية الأخلاقية لا يسمح باستئصال أعضاء الأموات إلا إذا تاكدنا من ان الواهب قد فارق الحياة. فمن الضروري إذن التحقق من الموت بما لا يبعث الشك. إن غياب علامات الحياة المنظورة (كآخر نسمة أو كآخر خفقة قلب) لا تفي بمقاييس الطب الحديث لإعلان الموت، لان الدورة الدموية والتنفس يمكن إبقاؤهما اصطناعيا. وقد استبدل الكثيرون التحديد القديم للموت (الموت العيادي) بتحديد “الموت الدماغي”. ويفترض الموت الدماغي توقفا تاما لا يثير الجدل لكافة الوظائف الدماغية. إن تشخيص الموت الدماغي هو دليل أكيد على نهاية الحياة. ومن هذه اللحظة، يجوز استئصال الأعضاء من اجل زرعها.[8]

ما الموقف الأخلاقي من زرع عضو من جسم حيواني في جسم أنساني؟

إن العمليات التي أجريت في الثمانينات كزرع قلب قرد في جسم طفل، وزرع كلية أو كبد من الشمبنزي أو من الخنزير، قد أثارت تساؤلات كثيرة حول شرعية هذه التقنية. ترى هل بات الإنسان شبيها بالماكينة أو السيارة، يستبدل في جسمه أي قطعة بشكل روتيني؟ أليس ثمة مقاييس أخرى خاصة بالإنسان ينبغي احترامها؟

إذا كان ثمة تحفظات إزاء هذه التقنية فيرجع ذلك إلى أسباب عدة: الغموض الذي يكتنف مدى نجاح العملية. ثم الخوف من رفض أو عدم تقبل الجسم الغريب أو انسجامه، عدا عن التبعات من المضاعفات التي يمكن أن تنتج عنها. والخطر الأكبر هو التغير العضوي الحاصل في بنية الإنسان، كان يمضي حياته بقلب خنزير أو كلية قرد؟! مازالت هذه التقنية لم تلقى القبول المنتظر من قبل العاملين فيها، كما أن التجارب التي جرت حتى الآن قد باءت بالفشل، بسبب حصول مشاكل في المناعة.

وأخيرا فان اعتراضات أخرى من جانب المدافعين عن الحيوان والرفق به، تدعونا إلى التفكير مليا قبل القيام بأي تجارب على الحيوان، رغم قناعتنا بان الحيوان خلق لخدمة الإنسان،  لكن ذلك لا يعني عدم احترام حقه في التعامل معه برفق ولين.[9]

خاتمة

ما ينقص مجتمعنا هو ان يرتقي إدراكه لأهمية التبرع بالأعضاء بعد الموت، من اجل إنقاذ أرواح كثيرين هم بأمس الحاجة إلى هذه الأعضاء ليعود لهم الأمل مجددا بالحياة. لابد من نشر الوعي لدى العامة بضرورة الإقدام على هذه الخطوة الإنسانية المهمة، فلا فائدة من أي عضو من أعضاء جسمنا بعد الموت، خاصة وان التشريح ياخذ حصته التعليمية او التحقيقية احيانا لمعرفة اسباب الوفاة. كم من الناس الأصحاء نفقدهم بشكل يومي اثر الانفجارات وحوادث السير وغيرها، فيما يعاني آخرون من تدهور أو تراجع عمل عضو أو أكثر في جسمهم. يكفي تحرير ذلك في وصية، فوصية المتوفى ملزمة، وفي حالة عدم وجود وصية يمكن  للأهل اتخاذ القرار اللازم عوضا عنه، من اجل انقاذ ارواح اخرين.

[1] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، المكتبة البولسية، جونيه 1999، 2293.

[2] المصدر السابق، 2295.

[3] المصدر السابق، 2296.

[4] مجموعة مؤلفين، دراسات اخلاقية 4- اخلافيات طب الحياة، المكتبة البولسية، جونيه 2006، ص130.

[5] المسيحية في اخلاقياتها، سلسلة الفكر المسيحي بين الامس واليوم-19، ترجمة المطران كيرلس سليم بسترس، المكتبة البولسية، جونيه 1999، 301-302.

[6] جوزيف معلوف، المسالة الاخلاقية في العلوم الطبية، المكتبة البولسية، جونيه 2005، 131.

[7] المصدر السابق، ص127-128.

[8] المصدر السابق، ص 302.

[9] المصدر السابق، ص 137-138.

شاهد أيضاً

إصدار جديد لسيادة الحبر الجليل مار ازاد شابا

إصدار جديد لسيادة الحبر الجليل مار ازاد شابا تقديم: الاكليريكي ألفير أمجد ضمن سلسلة منشورات …