مقدمة
حين تتوالى الايام والسنين والعقود لتطوي من عمر الانسان صفحات وذكريات فتصبح ماضيا بعيدا، عندها، تبدا رحلة الالم والضعف الجسدي، رحلة التجرد والتخلي عن كل شيء، وهذا ما يتطلب اعدادا وتدريبا كي لا يصاب الانسان على حين غرة بالخوف والرهبة وهو يشعر بدنو النهاية الحتمية. وخلال تلك الرحلة يحتاج المريض الى مرافقة صبورة ومحبة وواعية، مرافقة ملؤها الاحترام والحنان والاهتمام. وهذا ينسحب على كل انسان مريض في مراحله الاخيرة، سواء اكان في العائلة او في دار للمسنين او في المستشفى.
المرض في حياة البشر
لقد كان المرض والعذاب دائما من اخطر المعضلات الملمة بالحياة البشرية. ففي المرض يختبر الانسان مدى عجزه وحدوده ومحدوديته. وكل مرض يتراءى لنا الموت من خلاله. وقد يقود المرض الى الجزع والانكفاء على الذات، بل الى الياس والثورة على الله احيانا. ولكنه قد يصير الانسان اكثر نضجا، ويساعده في تمييز ما ليس جوهريا في حياته، فيرتد الى ما هو جوهري. وقد يفضي المرض، غالبا جدا، الى التماس الله والعودة اليه.[1]
الالام والامراض هي اختبارات لابد للانسان من ان يتعرض لها فتذهله، واسبابها متعددة. عندما يتالم الانسان يتغير كلامه وحركاته وسيره وطريقة تفكيره وعلاقته بمحيطه. فالوجع الجسدي او الحزن النفسي يبدلان موقفه ازاء وقائع الحياة اليومية. ويعاني المريض في محدوديته وتبعيته خللا بل انهيارا في علاقاته؛ بذاته، وبمحيطه، وبالاخرين وغالبا بالله. فيشعر بانه مستبعد عن الحياة العامة، ومعزول، وعاجز، ولا يفيد احدا. ان الالم والمرض هما بمثابة صرخة الى المساعدة والشفاء، والى الحياة والصحة والسعادة. وبوسعهما ان يحدثا ازمة، ويقودا الى الياس، عندما تتلاشى فرص الشفاء؛ ولكن بوسعهما ايضا ان يخلقا فرصة للتفكير والعودة الى الذات، او يكونا نداء للاخرين للعطف والمرافقة، او محكا لتصرفهم تجاه المرضى والمسنين والمحتضرين. المرض والالم يذكران بمحدودية كل حياة ارضية ومصيرها، يذكران بالموت.[2]
تدرب المريض او المحتضر على التخلي عن اجمل ما عنده
على المريض ان يتدرب، حين يبدا العد العكسي في حياته، على التخلي عن كل ما كان يحب وكل ما كان يملك. فبعد ان قضى حياته في الاخذ والتملك وانشاء المشاريع، اذا به، في ساعة من التخلي الوجودي، يرى نفسه امام نفق مظلم لا يعرف نهايته. وهكذا يبدا بالتدرب على الموت؛ اي التخلي تدريجيا عن كل ما يربطه بهذا العالم، حتى الاهل والاصدقاء.
ومن الصعوبات الكبرى التي يعاني منها المريض؛ فقدان الاستقلالية والسيطرة على جسده. فيضطر الى طلب العون من الاخرين للقيام بابسط متطلبات الحياة؛ من قضاء حاجته او الاغتسال او الاكل…الخ، فيفقد سيطرته على جسده، الذي كان بالامس مطواعا سلسا، وهذا ما يحمله على الاعتقاد ان الالم قد نال من كرامته واضعف صورته في نظر الاخرين. كل هذا يخلق في المريض حالة نفسية قلقة، فتدور تساؤلات كثيرة في مخيلته حول حياته ومصيره وعلاقاته مع اقاربه واصدقائه، وقد يقع ضحية الوحدة والتخبط في الياس.[3]
مرافقة المريض والاعتناء به
ان مرافقة المريض ليست، كما يظن البعض، عملا سهلا. فالمريض يجتاز فترات دقيقة وعصيبة، يصعب على المرافق ان يفهمها او ان يسبر غورها. ومع ذلك لابد من ايجاد الكلمة المناسبة في الوقت المناسب للتعبير عن حبنا للمريض وقربنا منه.[4]
ليس المرض والاحتضار والموت دعوة الى العيش في وعي الموت والى تحضيرنا لنموت ميتة مسيحية فحسب، فهذه كلها تحملنا ايضا على مجابهة معضلات اخلاقية. نحن مسؤولون عن المحافظة على الحياة وعن الاهتمام بالصحة وعن الصراع ضد الامراض وشفائها وعن مرافقة المحتضرين ومساعدتهم. هذه هي ايضا غاية العمل الطبي وغاية الاسعافات التي يتجلى هدفها الاسمى في خير المريض في المعنى الشامل للكلمة. وفي المسيحية تعد خدمة المرضى والمحتضرين منذ القديم “عمل رحمة”.[5]
ما يعزي المريض او المحتضر ويشد من ازره اكثر من اي شيء اخر، على الاقل في مجتمعنا، هو حضور الاقارب والاصدقاء، ليس مهما ما يقولونه، فاحيانا الصمت في هذه الحالات هو افضل من الكلام. يكفي تواجدهم القريب واصغاؤهم له، ، كل ذلك يرفع من معنويات المريض ويششجعه ويمنحه راحة.
معاناة المرافق
اذا كان المريض او المحتضر بحاجة الى مرافقة، فان المرافق نفسه ايضا، يحتاج الى من يرافقه ويهتم بمعاناته اليومية في صراعه الدائم مع الالم والموت والاهانة والاحباط والياس؟
فمن جهة الاهل؛ الى جانب الجهد الذي يبذلونه للتخفيف من اسى المريض وحزنه، ينتابهم الخوف، خوف الفراق، خوف التعبير عن العاطفة التي تربطهم به، خوف الوقوع في المصير عينه يوما ما. فمن المهم ان يتعلموا، كيف يحافظون على صلابتهم وشجاعتهم، على الرغم من صعوبة الموقف ودقته. كم من الضروري، في هذه الحالة، ان يقف الاهل والاقارب الى جانبهم في محنتهم. اما المسعفون، الذين يقومون بعمل المرافقة اليومي، سواء اكان على الصعيدين الجسدي ام النفسي، فمن الافضل، الى جانب عملهم المنفتح والمستجيب الى حركات المريض، ان يحافظوا على مسافة سليمة معه. لان كل التزام مفرط في العمل مع المرضى، يعرض صحة المرافق للاستنفاد، ويضر بسائر المرضى الذين هم بامس الحاجة اليه. في هذه الحالة، يحتاج الى التعبير عن الامه وشجونه ضمن فريق يعرف ان يصغي ويناقش في الوقت المناسب. هكذا هي المرافقة، معاناة كبرى في حد ذاتها، الا انها لا تقود حتما الى الياس، وخصوصا اذا حصل كل مرافق على الدعم اللازم من فريق عمله او من حلقات تعتمد الاصغاء والحوار والتفكير سبيلا لها.
ومن المهم ان يتنبه المرافقون للمريض الى بعض المظاهر السلبية التي تبدر من المريض؛ كالعصبية والغضب واطلاق التهم للمجتمع والدين والله وحتى الذين يخدمونه، متذمرا من وضعه ومتظلما. لابد للمرافق ان يدرك ان ذلك ليس موجها ضده بالذات، فهذه مرحلة ستمر وتنتهي، فكلما تمكن المرافق من فهم عنف المريض او المحتضر وتحمل تعابيره، ازداد قدرة على مساعدة المريض على التحرر من هذه المظاهر والمشاعر السلبية التي تصدر عنه دون دراية خلال هذه المرحلة. وعكس ذلك، هناك المريض الصامت الذي ينتابه شعور القرف والاشمئزاز اللذين يصيبان صميمه. فيصبح صعب المراس، فينسى ماضيه لان ما ينتظره بات اصعب بكثير من حنينه اليه.[6]
تعليم الكنيسة واحترام الاموات
الكنيسة في تعليمها المسيحي[7] تؤكد على؛ وجوب توفير الانتباه والعناية للمشرفين على الموت لمساعدتهم على ان يعيشوا اوقاتهم الاخيرة في كرامة وسلام، وان يسعى من يهتم بهم بان يتقبلوا (المرضى)، في الوقت المناسب، الاسرار التي تهيىء لملاقاة الاله الحي. وتوصي بان تعامل اجساد الموتى باحترام ومحبة، في الايمان ورجاء القيامة. وتعتبر دفن الموتى من اعمال الرحمة الجسدية، لاكرام اولاد الله، هياكل الروح القدس.
وترى انه يمكن ان يكون تشريح الجثث مقبولا اخلاقيا لمقتضيات التحقيق الشرعي او البحث العلمي. وتجد في التبرع بالاعضاء بعد الموت امرا شرعي وجديرا بالثواب. لا بل تسمح الكنيسة بحرق الجثث اذا لم يكن في ذلك تعبير عن انكار الايمان بقيامة الاجساد.
[1] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، المكتبة البولسية، جونيه 1999، 1500 و 1501.
[2] المسيحية في اخلاقياتها، سلسلة الفكر المسيحي بين الامس واليوم-19، ترجمة المطران كيرلس سليم بسترس، المكتبة البولسية، جونيه 1999، ص290.
[3] جوزيف معلوف. المسالة الاخلاقية في العلوم الطبية، المكتبة البولسية، جونيه-لبنان 2005 ص166-167.
[4] المصدر السابق. ص165.
[5] المسيحية في اخلاقياتها، ص293-294.
[6] المصدر السابق، ص173.
[7] التعليم المسيحي، 2299 و 2300 و 2301.