مقدمة
ظهرت المسيحية كبدعة جديدة، بالنسبة للوثنيين، واعتزل المسيحيون الاوائل الحياة العادية، وابتعدوا عن الطقوس والمراسيم الدينية الوثنية، فاتهموا باثارة الشغب والفوضى وتعكير صفو المجتمع. والنتيجة، معاناة واضطهاد فاستشهاد.
هذا الثمن الباهظ الذي دفعه اباؤنا الابطال وهذه التضحيات الجسام التي قدمها اجدادنا كانت بدل ايمانهم الثابت، وبذلك فهم مثال يحذوه المسيحيون في كل العصور ومنهل يستمدون منه الشجاعة والقوة لخوض مختلف صراعات الحياة وغمارها.
طال الاضطهاد مسيحيين كثيرين في القرون الاولى، ومرت المسيحية باوقات عصيبة كلفتها الكثير من الارواح والدماء، لكن الاضطهادات عموما عجزت عن القضاء على المسيحية، بل ان كنيستنا في الشرق كانت تبدو اكثر ثباتا واقداما في المجاهرة بمبادئها ومسلكها بعد كل ازمة.
وقد اهتمت كنيستنا ايضا بالشهداء، واكرمتهم وعظمتهم وخصتهم بصلواتها وحفظت اثارهم وجهادهم، معتبرة ان استشهادهم قمة الشهادة. وامانة منها فقد نقلت للاجيال بطولات وماثر اؤلئك الخالدين، ضمن قصص دينية شعبية لتكون شاخصة امام الجميع ومنهلا لطريقهم الشاق.
موجز القصة
ينحدر قرداخ من سلالة الملوك الاشوريين. والده من سلالة نمرود، والدته من سلالة سنحاريب. كان قرداخ جميل المنظر، رشيق القد، قوي الجسم، ماهرا في القتال، ومتمسكا بالديانة الوثنية. سمع عنه شابور فاستدعاه واكرمه، ومنحه هبات كثيرة واقامه وزيرا على اثور.
لمل وصل قرداخ الى داره في اربيل، خاف منه المسيحيون، وبنى حصنا على تل يدعى “ملقي” ثم اقام معبدا للنار.
وكان ثمة رجل طوباوي اسمه عبديشوع يسكن مغارة في جبل شمال اربيل، اوفده الله ليهدي قرداخ. وبعد حوار مطول بينهما حول الاله الحق، والخلائق التي تدل عليه، اغتاظ قرداخ من الشيخ القديس وامر بربطه بسلاسل قاسية وزجه في غرفة مظلمة وبعدم اعطائه كل مساء سوى قليل من الخبز والماء.
وفي اليوم التالي اثناء الصيد لم تصب سهام قرداخ اهدافها، فعلم انه تاثير الشيخ المقيد، فخاف وبكى قائلا: “الويل لي فاني عذبت رجل الله، حقا ان اله المسيحيين لعظيم. انه الاله الحق الذي خلق السماء والارض وكل ما فيهما، ولا اله اخر سواه”… فاطلق سبيله وعاد الى منسكه.
فنال قرداخ واثنان من عبيده العماد في مغارة عبديشوع. وما ان عاد الى بيته، حتى اكتفى بطعام بسيط في النهار، وفتح كنوزه موزعا عطايا كثيرة وصدقات سخية على الكنائس والاديرة والفقراء والمحتاجين والايتام. اما هو فقد اصبح حليما وديعا، ابتعد عن الحروب والصيد وعكف على الصلاة والصوم، محررا المظلومين ومنصفا اياهم.
ولكن الروم والشعوب المجاورة استغلوا اعتكاف قرداخ، فتوغلوا في منطقته وعاثوا فيها الفساد وسبوا كثيرين من بني اهله. اما هو فوعد الرب ان يستاصل معابد النار وبيوت الاصنام فانقض على الاعداء وارجع السبي.
حال سماع الملك بتنصر قرداخ، حزن وحاول اعادته الى سابق عهده، لكن عبثا. ولما راى ان مسعاه قد خاب، ارسله الى بلاده مكبلا لتكون محاكمته هناك.
ظل قرداخ مثابرا على الصلاة، وظهر له اسطفانس منبئا باستشهاده، فرجم ومات باخر حجر رماه ابوه. واستشهد في السنة التاسعة والاربعين لحكم شابور الثاني يوم الجمعة. واجتمع عشية السبت قوم من المسيحيين واختطفوا جسده من الحراس وواروه الثرى باكرام عظيم.
مخطط القصة
قصة مار قرداخ تنتمي الى سلسلة قصص الاضطهادات، وتعود احداثها الى القرن الرابع ابان الاضطهاد الاربعيني. وهذه القصص متشابهة عموما، لها مخطط واحد ومنهج واحد: فبينما الملك يلبس ثوب الشر ويعذب ويضطهد القديس، فان الاخير تصاغ شخصيته صياغة فيها الكثير من الزخرفة والتجميل، فهو يمتاز بالجراة والاقدام امام الملك واعوانه. لا يتردد او يخاف من العذاب بل يتحدى الموت، ويبدو كشخص مؤمن ثابت لا يتزعزع.
اضافة الى ذلك فان هذه القصص تحتوي حوارات طويلة وصلوات وادعية تخرج من فم القديس، وللذخائر ايضا دور هام، حيث تحفظ في اماكن خاصة، اما جثمانه الطاهر فيدفن باكرام، ويقدس المكان الذي قضى فيه شهيدا. ولابراز الحدث نجد الملك نفسه يتدخل ويعذب ويضطهد..
وهدفها
هو حث المسيحيين على الالتزام بايمانهم، واسترخاص لكل شيء واكتفاء بواحد احد هو الاله العظيم، اله الحق والحب، الذي تانس وختم البشرية بشهادة هي الاسمى وتضحية ولا اروع، فهو الشهيد الاول والشاهد الاول، وعلى مثاله سار المسيحيون الاولون الذين اراقوا دماءهم الزكية وهم يتشبثون بايمانهم.
من هنا فان هذه القصص التي تحمل بين طياتها بطولات اجدادنا وجهادهم المقدس هي عبر لنا نستمد منها لحياتنا الراهنة، كي لا نحيد عن طريقهم، ونبقى امناء لحب الهنا الذي حملنا اسمه مهما كانت الظروف وايا كانت المعاناة والالام فقيامتنا لا نبلغها الا بعبورنا في الالم.
العناصر التاريخية
قصة قرداخ التي طبعها بيجان تاتي ضمن قصص عديدة لا تحمل نفس المصداقية التي نجدها في القصص الاخرى، خاصة قصص ماروثا الميافرقيني من القرن الخامس، ففيها الكثير من التزويق والتجميل. ويضعها شير تحت عنوان “الشهداء المشبوه بهم”.
في هذه القصة نجد عناصر تاريخية ثايتة اعتمدت، ومن حولها حيكت احداث كثيرة انطوت على الاثارة والتشويق، ومن اهم هذه العناصر:
1- الاضطهاد الاربعيني 340-379
مهما كانت الاسباب والدوافع، فان التاريخ يكشف لنا ان الاضطهادات الفارسية نكلت بالمسيحيين وحصدت منهم الافا مؤلفة، وخاصة الاضطهاد الاربعيني الرهيب الذي دام اربعين سنة منذ 340 و341 وحتى وفاة شابور الثاني 379 حيث رزحت كنيسة المشرق تحت وطاته، ودفعت ثمنا باهضا من دماء الاساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيين، وعلى راسهم البطريرك شمعون برصباعي. وعن تنصر قرداخ يقول روبنس دوفال: “ان الحادث الذي رددت صداه تلك الاصقاع في هذا الاضطهاد، انما كان اهتداء قرداخ حاكم حدياب العسكري الى الديانة المسيحية واستشهاده في 358”
2- شابور الثاني 309-379
نعم المسيحيون بسلام في بداية حكمه 309 لكنه بسبب معاداته للرومان، اتهم المسيحيين في بلاده بانهم موالون للرومان، فكان ذلك سببا لشن الاضطهادات عليهم وخاصة الاضطهاد الاربعيني الذي جرى ابان حكمه. واتسمت هذه الفترة بالعنف والدم، وعرف شابور الثاني بذي الاكتاف، لاستخدامه طريقة خلع الاكتاف البشعة، وهو اول الملوك الساسانيين الذين اضطهدوا المسيحيين.
3- المكان او الاثر
في القصة دلائل واشارات كثيرة عن الخارطة السياسية والجغرافية، واماكن كثيرة تدور فيها الاحداث.. وخاصة في حدياب (اربيل).
” ولما ثار-قرداخ- على الملك شابور الثاني، ابتنى له على رابية ملقي القريبة من اربيل قصرا منيعا. واكرم الناس هذا القديس في وطنه-بعد استشهاده- مدة طويلة.
وشيدوا كنيسة في موقع استشهاده تحمل اسمه، وكانوا يحتفلون فيها بعيده كل سنة مدة ثلاثة ايام”، وفيما بعد “بني مزار لمار قرداخ بالقرب من القوش وبجانبه دير كبير على اسمه”.
بطل القصة
قرداخ شاب جميل، فارس مقاتل، مولع بالصيد.. يدخل في حوارات واستجوابات مطولة مع الملك والحكام بكل شجاعة واقدام، على سبيل المثال، عندما مثل قرداخ امام الملك ليستجوبه، فما ان راى الملك قرداخ حتى صاح: “اتيت اهلا وسهلا، ايها الجندي الظافر.. سمعنا بانتصاراتك..لكننا سمعنا ايضا ما هو اصعب من ذلك.. فيقال انك نبذت الديانة المجوسية العظيمة واحتقرت الالهة وصرت مسيحيا”، واثناء ذلك كان الملك يغمز له بعينيه ان ينكر ذلك ويقول انه ليس مسيحيا. اما الطوباوي قرداخ فقال: “اني انطق بالصدق امام الملوك و لا اخجل” واضاف “حقا ايها الملك اني مسيحي، واني اعترفت واعترف سرا وعلنا بكوني مسيحيا، واني بقوة المسيح انتصرت على الاعداء ودمرت معسكرات الغزاة..”.
وعلى لسان القديس وضعت صلوات كثيرة، واخرها قبل رجمه: “ايها الرب يسوع المسيح ابن الله، ساعدني في هذه الساعة واهلني لاختلط بجموع قديسيك”.
وهناك قديسون ورهبان يظهرون له وقت الشدة ليحثوه على الثبات: سركيس، اسحق، عبديشوع، بيري. وخاصة اسطفانس الشهيد، فعلى غراره يرجم قرداغ.
ويلاحظ ايضا ما الت اليه حال قرداخ بعد العماذ، حيث انقلبت راسا على عقب: فمن وثني متعصب، تحول الى مسيحي مؤمن، ومن قائد شرس، الى انسان وديع حليم، ومن اللهو واللعب، اتجه نحو الصلاة والصوم وتحرير المظلومين. كما وتوضع على فمه استشهادات كثيرة من الانجيل خلال احاديثه.
“ان المستشرقين يرون في قرداخ اميرا او قائدا حديابيا نصرانيا رفع لواء العصيان على شابور الملك بغية الاستقلال.. لكنه غلب اخيرا وقتل”
خاتمة
قد ترقى نواة هذه القصص الى ازمنة معاصرة للاحداث، لكنها امتزجت عبر الاجيال باساطير من تقوى المسيحيين، زادتها خيالا ومغالاة، رغم انسجامها وسياق القصة.
علينا ان نحافظ على النص على علاته، دون التلاعب به، والمطلوب دراسة تحليلية نقدية لهذه السير والقصص. فهذه الكتابات لا تختص بالتاريخ حرفا، لكنها تعتمد على بعض الحقائق والاحداث التاريخية، ومن حولها يطلق الكتاب العنان لخيالاتهم في سرد قصص جذابة مشوقة بغية ايصال مبتغاهم وهدفهم الديني فحسب.
ومخلص القول: ان الاضطهادات عموما عجزت عن القضاء على المسيحية رغم ضرواتها ووحشيتها، بل ان كنيسة المشرق كانت تخرج منها كل مرة اكثر نصوعا وثباتا في مسلكها وايمانها. ونحن اليوم اذ نفخر باسلافنا الابطال وتراثنا الثر، علينا مواصلة النهج لتحقيق الحب والحق والخير عبر تضحيات والام قد تصل الى الشهادة بالدم.
المصادر
-المطران ادي شير. كلدو واثور ج2 مشيكان 1993
-الاب يوسف حبي. كنيسة المشرق ج1 بغداد 1989
-الاب البير ابونا. تاريخ الكنيسة الشرقية ج1 بغداد 1985
-الاب البير ابونا. شهداء المشرق بغداد 1985