الاب ازاد شابا
مقدمة
عانى شعب الله على مدى تاريخه، الاضطهادات. وقد اصابت هذه الاضطهادات في العهد القديم ملوكا وانبياء، بسبب حبهم لله. ارميا يرى فيها جزءا لا ينفصل عن رسالته، ويرى فيها اشعيا الوسيلة التي بها يتمم عبد الرب قصد الله. ويوضح كتاب الحكمة، السب العميق لكل اضطهاد: يبغض الشرير الانسان البار، لانه يرى فيه توبيخا حيا، وفي الوقت نفسه شاهدا لله الذي يتجاهله.
ولم يستثني الاضطهاد ابن الله نفسه، ومن بعده سيكون نصيب تلاميذه “فاذا اضطهدوني، فسيضطهدونكم ايضا” (يوحنا 15: 20). ومن ثم اصاب الاضطهاد مسيحيين كثيرين في العصور المسيحية الاولى. لكن شعلة الايمان لم تنطفيء، بل انتقلت من جيل الى جيل بامانة، انما بثمن باهض، من دماء المسيحيين التي سالت انهرا. ومع ذلك ازداد عدد المسيحيين ولم ينقص “لقد اصبح دم الشهداء بذارا للمسيحيين”.[1]
ان موضوع الشهادة والشهداء كبير ومهم لفهمنا كل الكتابات القديمة. وبضمنها الكتاب المقدس، ومن يقرا تاريخ كنيستنا الشرقية، يجد فيها قصصا كثيرة في هذا الجانب، واسماء اكثر لشهداء كبار تمسكوا بايمانهم، وعدوا الشهادة شرفا عظيما، وبداية لحياة اسمى.
القصة بين الحرف والمغزى
يقصد كتاب هذه القصص، حث المؤمنين على التمسك بايمانهم، واذكاء المحبة فيهم، والثبات على نسق هؤلاء الشهداء الذين اراقوا دماءهم، من دون ان يتنازلوا عن حقيقة معتقدهم، باذلين الغالي والنفيس من اجل حفظ وديعة الايمان. وكل ذلك في اطار قصصي شعبي جذاب، ومرتكز على عدة حقائق تاريخية، تاركين المجال لمخيلتهم في صياغة وسبك احداث القصة التي تحمل اثار اقلامهم، اسلوبهم، محيطهم، ثقافتهم، ايمانهم..
هؤلاء الكتاب ليسوا صحفيين، ينقلون تقارير او حوادث واقعة، ولا مؤرخين يكتبون التاريخ. يكفي ان نعرف ان من يكتب هذه القصص، هو مؤمن، شاهد، يريد ان ينقل نضال المسيحيين المضطهدين الى الاجيال اللاحقة، ليفهموا ايمانهم ويغذوه في سبيل تعميق حياتهم الروحية. ونستطيع نحن اليوم ان نفهم ما تقوله لنا هذه القصص، ان شاركنا واضعيها ايمانهم..
القصة باقتضاب
اثر موت قسطنطين الكبير، حاول شابور الثاني الزحف على نصيبين، منتهزا الفرصة، ولما فشل عاد ادراجه. وابتدا بتضييق الخناق على المسيحيين وليثار لهزيمته منهم، اعتقادا منه بان هؤلاء المسيحيين موالون للرومان، فاضطهد الكهنة والرهبان وهدم الكنائس والاديار.
دلته مخيلته باديء ذي يدء الى مضاعفة الجزية. فكتب الى الحكام في بلاد الاراميين لاجبار شمعون برصباعي الجاثاليق ليمضي صكا اخذا على نفسه عهدا بان يجمع الجزية من المسيحيين مضاعفة.
يحضر الحكام شمعون ليطلعوه على ما جاء في رسالة الملك. وهكذا يدخل شمعون في حوار مع الحكام، معلنا ان لاسلطة له على احد، وليس له ان يطالب المسيحيين بجزية مضاعفة، مؤكدا ان السلطان المعطى له عليهم ليس في ما يرى بل في ما لايرى، اي في التعليم والوعظ بكلام الله والصلوات الطاهرة والضراعة الحارة.
وبعد اخذ ورد، يخبر الحكام الملك بجواب شمعون، فيرد الملك بدوره على كتاب الحكام بكتاب تهديد، متهما شمعون بصلفه وكبريائه ورفضه اوامر الملك، لكن شمعون يبقى متشبثا برايه.
وما ان يسمع الملك بتعنت شمعون، حتى يامر بابادة الكهنة وهدم الكنائس والقاء القبض على شمعون للمثول امامه.
من جهة اخرى كان قد قبض في تلك الايام على كدياب وسابينا، اسقفي بيلافاط، ويوحنا اسقف هرمز اردشير، وبوليداع اسقف فرات ميسان، ويوحنا اسقف كرخ ميسان، وعلى كثير من الكهنة والشمامسة، وكوشتازاد رئيس الخصيان، وسيقوا الى باب الملك في مدينة ليدان.
وبعد استجواب طويل مع الملكن يبقى شمعون متمسكا بموقفه، وعليه يامر الملك بقطع راس شمعون ورؤوس جميع اخوته… ويتم تنفيذ الامر خارج مدينة ليدان يوم الجمعة 17 نيسان سنة 341.
الاضطهاد الاربعيني
من العناصر والاحداث التاريخية الثابتة التي اعتمدها الكاتب في هذه القصة:
- الاضطهادات الفارسية: برغم الاختلاف القائم حول الاسباب والعوامل التي ادت الى قيامها، وبرغم تنوع الدوافع وراءها، سواء كان اليهود، او الكهنة المجوس او العداوات بين الفرس والرومان، او لاسباب اخرى.. فالمهم هو تاريخية هذه الاضطهادات.[2] وابتدا الاضطهاد الذي دام اربعين سنة، منذ 339 الى وفاة شابور سنة 379، راح فيه عدد كبير من الاساقفة والكهنة والراهبات والرهبان والعلمانين.[3]
- شابور الثاني: ملك 70 سنة اي منذ 309-379. وكان شجاعا جبارا. وفي اول ملكه اغار على بلاد العرب وتغلب على اكثر قبائلهم. وتشبه بمن تقدمه في بناء المدن، وهو الذي شيد كرخ ليدان في الاهواز، وهو اول الملوك الساسانيين الذين اضطهدوا المسيحيين.
وبقي المسيحيون المشرقيون مستريحين، على وجه العموم، طالما كان قسطنطين الكبير على قيد الحياة، لان شابور الملك اما رعاية له او خوفا ممنه لم يثر عليهم الاضطهاد كما فعل من بعد موته.[4] وكان لما عاد شابور الثاني بالخيبة من نصيبين، صمم على ايذاء المسيحيين.[5]
وتجمع المصادر على ان المضطهد الاكبر للمسيحية في ديار المشرق هو شابور الثاني الملقب بذي الاكتاف، لانه كان يستخدم طريقة خلع الاكتاف.
البطل في مركز القصة
يعطي الكاتب اهمية كبيرة لبطله (شمعون) فيحاول ابرازه، ويمنحه مساحة كبيرة، فهناك صلوات طوال على لسانه: “ايها الرب يسوع، يا من صلى لاجل صالبيه وعلمنا ان نصلي من اجل اعدائنا… تقبل ارواح اخوتنا هؤلاء وتقبل معهم روحي ايضا..”.
وياتي التشجيع والارشاد والحماسة التي بها يشحذ همم المؤمنين كي لا يتخاذلوا: “لاتخافوا يا اخوتي من الذين يقتلون الجسد ولا يستطيعون قتل النفس” (متى 10: 28).
كما ان البطل يملك صفات ومزايا عالية من الشجاعة والاقدام والحكمة. فيناقش الملك وحاشيته بدون خوف او تردد، بل يعلن ايمانه امامهم بحزم، مستشهدا باقوال المسيح وتعاليمه: الحوار الذي دار بين الملك وشمعون:
الملك: اسجد ولو مرة للشمس، فاخلصك من ايدي المجوس الذين يرومون قتلك.
شمعون: معاذ الله ايها الملك… (فيقول اعدائي)، لقد حاد شمعون عن الهه وسجد للشمس، لانه خاف من الموت وفزع من القتل..
الملك: اني لاجل صداقتي لك قد امهلتك ونصحتك ولم تسمعني، فانت الان مسؤول عن ذلك.
شمعون: ايها الملك، اني لست بحاجة الى مثل هذه النصائح… ولا تجديني نفعا صداقة الملك التي تهيء لي سخط الله.
هكذا يتقدم شمعون بخطوات واثقة نحو العذابات وبدون ان يتزعزع قيد شعرة. وكل هذه الصفات يصوغها الكاتب في شخصية شمعون، لكي يظهره رجلا حقيقيا، مؤمنا، وقديسا، ويقدمه كشخص يحتذى به.
مخطط القصة
القصة فن من الفنون الادبية التي لها جمالية وجاذبية، تخاطب وتثير عواطف الناس ومشاعرهم، وفضلا عن المتعة التي فيها، تحوي ايضا فكرة ما او تعاليم مهمة او نصائح.. يستمدها القاريء كدروس وعبر للحياة.
وقصتنا هذه -شمعون برصباعي- تصنف ضمن قصص الاضطهادات التي تمتاز باسلوب ومخطط عام.
يسند دور الشر الى الملك، في حين يتميز الشهيد بمزايا رفيعة من الشجاعة والحكمة… وتاتي العذابات والالام التي يعانيها الشهيد على قدر كبير من القسوة والعنف لتفخيم الشهادة. اما الاستجوابات فطويلة مسهبة.
وهناك دور للذخائر، اذ في العادة يطلب المسيحيون ذخائر من اجسام الشهداء -القديسين- وفي قصتنا يلبي الاساقفة في مدينة ليدان طلب اؤلئك المسيحيين.
هذه الخطوط العريضة لقصص الاضطهادات، والتي تضفي عليها خصوصية واسلوبا، حولها تنسج بقية الاحداث المثيرة والمشوقة حتى تصل النهاية الماساوية العامة.
خاتمة
هذه القصص ليست تاريخا ولكنها تعتمد التاريخ، وهي ليست حوادث او حقائق واقعة، لكنها في المقابل ليست وهما ولا خيالا. انها كتابات انسانية، واثر ثمين وصلنا من ابائنا واجدادنا، تنبغي المحافظة عليه. اما الغرض، فديني بحت. لذا ليس لنا ان نطالب كاتبها بما لايريده هو. انما ان اردنا فهم مغازي هذه الكتابات، فعلينا العودة الى محيطها.
وتبدو هذه القصص على شاكلة الاشرطة السينمائية التي نقرا في مقدمتها: ان احداث هذا الشريط ماخوذة من قصة حقيقية واقعية! وهذا لايعني ان كل ما في الشريط حقيقي على الاطلاق. كلا، انما هناك نواة او خط عريض، يعتمده الكاتب وعلى اساسه يبني قصته، ليخرج بها الى الواقع وهي على صلة به، ولكنها في الحقيقة لاتخلو من اضافات وتشذيب ولمسات زخرفية كتابية.
اذن بامكاننا ان نقرا، ونجعل ما نقراه ان يقول لنا شيئا ما، شيئا من شانه ان يحيينا. فالانسان اذا استمع الى احداث الماضي، الى قصص اجداده، ادرك انه امتداد لهم وانه ينتمي الى عائلتهم. وقصصهم هه تشيد ببطولاتهم وتثير حميتنا، وتذكي الايمان في قلوبنا، فنحمل الراية بروح بطولية كاسلافنا العظماء الذين استرخصوا ارواحهم وكل مقتناهم حبا بالمسيح وفداء له.
[1] مقولة ترتليانوس الشهيرة. زهو كاتب مسيحي عاش في القرن الثالث، ايام الاضطهاد.
[2] الاب يوسف حبي، كنيسة المشرق ج1، بغداد 1989، 340-342.
[3] المطران ادي شير، كلدو واثور، المجلد الثاني، مشيكان 1993، 66.
[4] المصدر السابق، 60.
[5] المطران سليمان الصائغ، يزداندوخت ج2، الموصل 1953، 343.