مقابلة مع الاب البير ابونا

اجراها/ الاب ازاد شابا

نشرت في مجلة نجم المشرق العدد 41 السنة الحادية عشرة (1) 2005

مع انه لا يهوى المقابلات الصحافية والتلفازية والاذاعية، بل يحاول تجنبها قدر المستطاع، لكنه لم يسعه التهرب من المقابلة التي عرضتها عليه مجلة “نجم المشرق” العزيزة على قلبه، فاجاب الاب البير ابونا، الغني عن التعريف، عن اسئلتنا مشكورا.

 

س: ماذا تخبرنا عن حياتك ومسيرتك الكهنوتية وخدمتك الرعوية؟

ج: ان الكلام عن الذات امر بغيض، ولكن ما العمل، لا مفر منه. ابصرت النور سنة 1928 في قرية فيشخابور الواقعة في اقصى الشمال الغربي من العراق، على الحدود السورية – التركية، ودرست المرحلة الابتدائية في القرية نفسها ثم في زاخو، وفي نهاية عام 1940 دخلت معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي في الموصل، وامضيت فيه (11) سنة، حيث تلقيت العلوم اللغوية ثم الفلسفية واللاهوتية.

في 17 حزيران 1951، رسمت كاهنا، وفي الصيف الاول مارست الخدمة الكهنوتية في القرى الشمالية من ابرشية زاخو بمناسبة  السنة المقدسة للعالم، وفي عشية عيد الميلاد سنة 1951 عينني راعي ابرشية زاخو، مثلث الرحمة المطران حنا نيسان لخدمة قرية افزروك والقرى المجاورة لها في منطقة السليفاني.

 

س: كيف بدات عملك ونشاطك ككاهن شاب في قرية؟ وهل لاقيت هناك اي معاناة؟

ج: كانت افزروك قرية يقطنها نحو (40) عائلة، يهتم سكانها بتربية المواشي وبالزراعة، ومعظمهم يتكلمون اللغة الكردية، مما اضطرني الى تعلم هذه اللغة لكي يتسنى لي التداول معهم وارشادهم وسماع اعترافاتهم.

اما خدمتي في القرية، فكانت تتوقف على الزيارات وتعليم الصغار التعليم المسيحي ومبادىء القراءة الكلدانية والعربية. وكانت في المنطقة خمس قرى اخرى منتشرة على مسافات متفاوتة من المركز، وكان علي ان اتفقدها واقيم القداس فيها كل اسبوع او كل شهر بحسب بعدها عن المركز، وكنت اتنقل على متن فرسي يرافقني شماس او احد اهالي القرية، ولم تكن الاسفار سهلة دوما، لا سيما في فصلي الشتاء والصيف، ناهيك عن الاخطار الممكنة.

ولكني كنت اعاني كثيرا من العزلة والوحدة، ولم تكن خدمتي الكهنوتية تشبعني، فاقضي اوقاتي في القراءات والمطالعات، وبقيت على هذا الحال اربع سنوات من نهاية عام 1951 حتى 1955. وفي خريف 1955 استدعيت للتدريس في معهد مار يوحنا الحبيب في الموصل، حيث واصلت العمل حتى عام 1973.

 

س: ماذا كان دورك في معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي؟

ج: كنت اقيم القداس الكلداني للتلاميذ، واقوم بتدريس اللغة الارامية بلهجتيها الكلدانية والسريانية، واحيانا علمت اللغة العربية والفرنسية للصغار، ولكني سرعان ما شعرت بنقص كبير في المعهد من ناحية التاريخ الكنسي الشرقي والاداب الارامية، فشرعت ادرس هذه المواد واكتب ملاحظاتي حولها، ثم اخذت ادرسها لطلبة قسم الفلسفة واللاهوت، وهكذا نشا كتاب “ادب اللغة الارامية” والكتاب الاخر “تاريخ الكنيسة الشرقية” بجزء واحد ثم بثلاثة اجزاء في وقت لاحق. وكنت اقوم بارشاد بعض التلاميذ وبالاعترافات الاسبوعية، والبي احتياجات الخورنات في الموصل، من قداديس ورياضات روحية ومواعظ الصوم الكبير والالام وغيرها … وفي الستينيات شرعت اترجم بعض الكتب الصغيرة ثم الكبيرة، ثم عكفت على الكتابة والتاليف، مستغلا وقتي القليل المتبقي من التدريس والواجبات … وهكذا توصلت بجهود كبيرة الى نشر العديد من الكتب … وقد تعلمت ان اكون دوما في خدمة الاخرين بكثير من السخاء مع الالتزام بواجباتي الاساسية في المعهد … ولم اترك المعهد الا حينما لاحظت ان الامور فيه اوشكت على الانتهاء، فانتقلت الى بغداد سنة 1973.

 

س: كلمنا الان عن خبرتك الرهبانية عند الكرمليين ثم عند الرهبان الكلدان؟

ج: انتقلت الى بغداد كمساعد لكاهن خورنة كنيسة مار كوركيس في بغداد الجديدة، ولكني فضلت حياة العزلة والكتابة في دير الابتداء لراهبات الكلدان في الزعفرانية، وبعد (25) سنة في الكهنوت قررت ان اعتنق الحياة الرهبانية، فسمح لي رؤسائي بذلك، فانتميت الى الرهبنة الكرملية، وامضيت سنة الابتداء في فرنسا (1976-1977) وعدت الى بغداد حيث ابرزت النذور الاولى، ثم الدائمة في وقت لاحق، ومع التزامي بالقانون الرهباني في الكرمل، كنت ايضا اخدم في بعض الخورنات، ولا سيما في كنيسة العائلة المقدسة في البتاويين ثم في كنيسة مريم العذراء (سلطانة الوردية) في الكرادة، وكنت اقوم بنشاطات اخرى كثيرة: رياضات روحية، اخويات، مواعظ، اضافة الى القداديس، وانشات في كرادة مريم خدمة التعليم المسيحي لاولاد المنطقة … احببت الروحانية الكرملية كثيرا وقرات كتابات متصوفيها: تريزا الكبيرة، يوحنا الصليبي، تريزا الصغيرة … الخ، وخير ما تعلمته هو التامل (الصلاة الصامتة)، وما زلت متمسكا بها، بالرغم من اختلافات الظروف، ولكن الاحوال وموقف بعض الاخوة اضطرني الى ترك الرهبنة على مضض.

حينما انتميت الى الرهبانية الكلدانية في التسعينيات من القرن الماضي، كانت الفكرة ان نعمل ونقدم شيئا للرهبانية، والبداية كانت مفرحة للرهبان، فعملت بموافقة الرئيس بعض الارشادات والتاملات والرياضات للرهبان، ودرستهم اللغة العربية والكلدانية … وامضيت اربع سنوات بهذه الحياة، فبدا البعض بالاعتراض والمعاكسة والشكوى لدى الرئيس، فاحبطوا نشاطي، فاضطررت الى المغادرة.

 

س: بالعودة الى عملك في الخورنات، قلت انك خدمت في كنيسة سلطانة الوردية، فماذا تخبرنا عن هذه الفترة؟ وما الخلاصة او المحصلة التي تفيد بها اخوتك الكهنة؟

ج: بعد ان خرجت من الرهبانية الكلدانية سكنت سنة واحدة في كلية بابل ودرست فيها. ثم طلب مني غبطة مثلث الرحمات مار روفائيل الاول بيداويد، خدمة خورنة سلطانة الوردية في بغداد، فكان ذلك، والتزمتها منذ نهاية 1994 وحتى 2001، فانشات قاعات وغرفا ودارا للكاهن. وكانت الكنيسة بمثابة قبلة للزوار الذين ياتونها جوقات وجوقات، منهم الشيوخ والمدرسون والطالبات … فكنت انتهز الفرصة للتقرب والتحدث اليهم وعن همومهم ومشاغلهم فيفتحون قلبهم ويدلون بدلوهم الثقيل ويخرجون مرتاحين فرحين.

اما نصيحيت لاخوتي الكهنة، فهي: ان يقيموا الامور بقيمتها الحقيقية، وان يكون لكل شيء مكانه: للصلاة والثقافة ويستغلوا وقتهم استغلالا صحيحا، ويعطوا كل شيء حقه، لا يضيعوا وقتهم في امور البناء والمشاريع والماديات والتفاهات، وباشياء لا روح فيها. وان لا ينسوا حياتهم الروحية، هذا اهم شيء عليهم ان يتمسكوا به تمسكا شديدا، لا حرفيا، لكي تكون لهم سندا في كل الظروف والمصاعب.

 

س: والان ما هي نشاطاتك؟

ج: نزولا عند طلبي المتكرر، حصلت من الرئاسة على الاعفاء من خدمة الخورنة في نهاية نيسان سنة 2001، وفضلت الاقامة في دير المسنين للقديسة حنة في كرادة داخل – بغداد، لاني منذ بضع سنوات كنت اشعر بتعب عميق ناجم عن (11) عملية جراحية اجريت لي في هذه السنوات الاخيرة. فاخلد الى الراحة والهدوء، ولكني لم اخلد الى الكسل والبطالة، ولم اكف عن القيام باعمالي المهمة، واولها الالتزام بحياة روحية منتظمة، ثم العكوف على مشاريع كتابية عديدة، فانا الان اكتب او اترجم وانشر الكثير من الكتب، لا سيما الروحية منها والتاريخية. واهتم اهتماما خاصا بالمجلتين: “نجم المشرق”، وانا عضو في هيئة التحرير، ومجلة “بين النهرين” وانا رئيس تحريرها منذ 2001. كما اني اصحح العديد من الكتب والمقالات والاطروحات او اضع لها مقدمات، واحسب ان هذه الامور كلها من ضمن رسالتي. وامامي هذه السنة مشروع نشر اربعة كتب جديدة، اذا امدني الرب بالعمر الكافي لانجازها!

 

س: كيف ومتى كانت بداية نشاطك الفكري؟ وما المواضيع التي استهوتك اكثر من غيرها؟

ج: جاء نشاطي الفكري متاخرا قليلا. فقد درست في المعهد الكهنوتي، وخلال سنوات دراستي قرات كتبا كثيرة، عربية وفرنسية، مما اكسبني ثقافة واسعة. وفي الستينيات، شرعت افكر في الكتابة، واول كتاب ترجمته من الفرنسية الى العربية كان كتاب “نشاة الكنيسة” في سلسلة دراسات الكتاب المقدس التي نشرها الاباء الدومنيكان في الموصل. وسالت احد الاصدقاء الكبار ان يصححها. وبعد ايام، اعادها الي منزعجا وقال لي: الترجمة رديئة، وعليك اعادة المحاولة، على ضوء صفحتين او ثلاث صححها لي. لقد اصابني، والحق يقال، شيء من الاحباط. ولكني اعدت الكرة، وقدمت الترجمة من جديد لهذا الصديق، وبعد التصحيح قال لي: لا باس، انها افضل من السابقة، فالى الامام … وشرعت اترجم واستعين ببعض الاصدقاء للتصحيح. ثم عكفت على دراسة التاريخ، القديم والجديد، المدني والكنسي، وبدات اكتب في هذا الموضوع وفي موضوع اللغة السريانية وادابها التي كنت ادرسها في المعهد. ثم جاءت ترجمات لبعض الكتب التاريخية المهمة، مثل “كتاب الرؤساء” و “تاريخ الرهاوي المجهول”. ثم ظهر كتابي الكبير “ادب اللغة الارامية” وتبعه “تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية” بثلاثة اجزاء، وغيرها … حتى بلغت كتبي المترجمة الموضوعة اكثر من ستين كتابا، ومعظمها في الامور التاريخية والروحية.

 

س: هذا عظيم جدا ويستحق التقدير، فنادرا ما يصل المرء الى هذا الكم الهائل من الكتابات. وهل ثمة مشاريع مستقبلية؟

ج: في السنة الماضية (2004) نشرت ستة كتب، بدءا بكتاب “ومضات” وانتهاء بكتاب “المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين “وقد اعدت طبعه. اما هذه السنة (2005) فامامي مشاريع كثيرة، منها كتاب “عشتار” والجزء الثاني من “ومضات”، وكتاب عن شارل دي فوكو، ترجمته عن الفرنسية الى العربية اثناء عطلتي الصيفية في السويد. والان اشتغل في كتاب في اعتبره مهما جدا، هو كتاب “ديارات العراق”، واملي ان انتهي من وضعه وان انشره في السنة بعون الله. فانا اشعر اني في سباق مع الزمن كما اشعر بثقل السنين، لذا احاول ان استفيد من كل يوم لكي اقوم بشيء يمكن ان يفيد الاخرين، قولا او خدمة او كتابة.

 

س: مجلة “بين النهرين” التي تراس تحريرها، كيف تقيم مسيرتها، وهل في النية تطويرها وزيادة اعدادها؟

ج: اجتازت مجلة “بين النهرين” فترة عصيبة واعتراها شيء من الخمول في العقد الاخير من القرن الماضي. وجاءت وفاة رئيس تحريرها المرحوم الاب يوسف حبي لتزيد الطين بلة، حتى اوشكت ان تلفظ انفاسها الاخيرة. فحاولنا معالجة هذه الحالة بما لدينا من الامكانات. والمجلة الان، والحمدلله، سائرة سيرها الحسن بخطى ثابتة. وكما نتمنى ان تظهر اكثر من مرتين في السنة، الا اننا لا نلقى مساعدة كبيرة وفعالة من علمائنا ومؤرخينا. وكم كنا نود ان يمدونا بمقالات علمية رصينة – كل بحسب اختصاصه – تسلط الاضواء على جوانب عديدة من تراث البلاد المشترك الذي ما زال قسم كبير منه قيد المخطوطات او على الالواح الرخامية او الطينية، وهي تنتظر من يحل رموزها ويقدمها لانسان بين النهرين، فتطلعه على ما امتاز به اجداده القدامى ن العبقرية في مختلف المجالات، فتكون لهم حافزا على ان يحذوا حذوهم في دروب الابداع على مختلف الصعد.

 

س: كلمة اخيرة، الى من توجهها؟

ج: كلمتي الاخيرة اوجهها الى الجميع، ولا سيما الى المؤمنين. فاردد لهم الكلمة الرائعة التي قالها القديس بولس: “ان جميع الاشياء تعمل لخير الذين يحبون الله” (روم 8/28). اجل، كل الاشياء بدون استثناء، حتى هذه الاوضاع الشاذة القاسية والفوضوية التي نعيش فيها الان، فعلينا ان نجدد ايماننا بالله الذي لن يتخلى عنا البتة، وثقتنا بمحبته الابوية وبعنايته الدائمة، وان نتصرف مثلما يريد الله، بحيث لا تؤثر فينا هذه الظروف تاثيرا سلبيا، بل نتلقى كل شيء بواقعية ايماننا ونحيا كابناء الله الواثقين بمحبة ابيهم السماوي حتى وسط اهوال الحرب والدمار، ونردد بايمان عميق: “ان كان الله معنا، فمن يكون علينا؟” (روم 8/ 31).

 

الاب ازاد: كان الله معك دوما، ودمت في رعايته لتتحفنا بالمزيد من الابداعات والكتابات.

شاهد أيضاً

إصدار جديد لسيادة الحبر الجليل مار ازاد شابا

إصدار جديد لسيادة الحبر الجليل مار ازاد شابا تقديم: الاكليريكي ألفير أمجد ضمن سلسلة منشورات …