دعوة لاعادة اكتشاف اعمال الرحمة الروحية والجسدية وعيشها في سنة الرحمة

الاب ازاد شابا

 

مقدمة:

  في زمن يتسيد فيه العنف، القتل، التهجير القسري والاضطهاد وتتحكم فيه المصالح، الانانية والجشع، هل هناك من معنى لكلمة الرحمة؟ هل من السهل التطرق الى الرحمة؟  نعم، بل انه الوقت الملائم، والاطار المناسب للحديث عن الرحمة وعيشها وتجسيدها. ان براءة البابا فرنسيس التي دعا من خلالها الى يوبيل الرحمة الاستثنائي والمعنونة “وجه الرحمة” تقتضي منا التوقف عند كل نقطة من نقاطها ال25، والتمعن في معانيها العميقة لكي نتمكن من عيش رحمة الله التي يبسطها علينا منذ الازل. فلنتوقف هنا عند النقطة ال15 والتي تتطرق الى اعمال الرحمة الروحية والجسدية التي تتطلب اعادة اكتشافها، لاحياء سنة الرحمة لا قولا فحسب انما فعلا تجاه اخوتنا في الانسانية.

 

ما هي اعمال الرحمة الروحية والجسدية؟

  يعرف كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية اعمال الرحمة، بانها “اعمال المحبة التي بها نساعد القريب في ضروراته الجسدية والروحية.

 تنقسم هذه الاعمال الى اربعة عشر عملا، سبعة منها تخص الرحمة الجسدية والسبعة الاخرى تخص الروحية.

 اما الجسدية فهي: ان نطعم الجائع، نسقي العطشان، نلبس العاري، نستقبل الغريب، نعتني بالمريض، نزور المسجون وندفن الميت. واما الروحية: ان ننصح الشاك، نعلم الجاهل، نحذر الخاطيء، نعزي المحزون، نغفر الاساءة، نتحمل الشخص المزعج بصبر ونصلي من اجل الاحياء والاموات.

 

ما مصدر اعمال الرحمة؟

  واضح ان هذه الاعمال مستنبطة من روح الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ومن خبرة الكنيسة وعملها في تاريخ البشر. فاعمال الرحمة الجسدية مستقاة من انجيل متى 25: 31-46 الذي يقدم تصويرا نبويا للدينونة الاخيرة، حيث كلمات الرب التي تمثل دينونة الله وحكمه علينا، من خلال ما قدمناه للقريب: العطشان، الجائع، الغريب، العريان، المريض والمسجون.، لان “المسيح نفسه حاضر في كل واحد من اصغر الصغار. والدينونة ستتم على اساس المحبة كما يقول القديس يوحنا الصليب”.

حين ياتي ابن الانسان في مجده كالملك فيدين جميع الشعوب و”يزن” سلوكهم في ميزان اعمال الرحمة التي يكونون مارسوها او لم يمارسوها تجاه المحتاجين. فيعلن لهم المعنى العميق لاعمالهم. تماهى يسوع في الماضي مع التلاميذ، وها هو يتماهى مع مع كل التعساء على الارض. وهو لا يدين المؤمنين فقط، بل يدين جميع البشر انطلاقا من هذه المحبة العملية.

 ان مظاهر الشقاء البشري لهي جلية واضحة في هذا النص الذي نحن بصدده، ويربط كل فعل محبة بضمير المتكلم: اطعمتموني انا. وهكذا يصل التلاميذ ومن بعدهم نحن الى نتيجة مفادها، ان السهر هو انتظار الرب في ممارسة المحبة الاخوية تجاه الذين يعيشون على هامش المجتمع.

 اما اعمال الرحمة الروحية، فقد استمدتها الكنيسة من نصوص اخرى في الكتاب المقدس واستشفتها من تعاليم المسيح نفسه وسلوكياته مع الاخرين، في المسامحة، الاصلاح الاخوي، التعزية واحتمال الالم…

 

كيف نؤن هذه الاعمال؟

 لا يكفي ان نعلم ونحاضر ونتحدث عن الرحمة، بل ان نعمل وان نقبل ان نوسخ ايدينا لبناء ملكوت الله، على غرار يسوع. وكما قام اخرون من القديسين والصالحين على مثال يسوع، نحن ايضا مطالبون بتجسيد هذه الاعمال سواء في تقديم يد العون والمساعدة المادية والعينية، او خدمة المرضى في المستشفيات ودور المسنين والبيوت، وخدمة ذوي الاحتياجات الخاصة وزيارة المساجين. وليس هذا فحسب بل ان نهتم للاخر، الاخ، القريب، من خلال النصح والتوبيخ والتقويم..فانا مسؤول عن اخي، وهذا ما يشير اليه البابا بندكتس في رسالته بمناسبة الصوم الكبير لعام 2012 وهو يشدد على اهمية التصحيح الاخوي: “اليوم وبشكل عام، اننا حساسون جدا لموضوع الرعاية الصحية والخيرية لتوفير الخير الجسدي والمادي للاخرين، ولكننا لانتحدث ان جاز التعبير عن مسؤوليتنا الروحية تجاه اخوتنا. ولكن الحال لم تكن كذلك في الكنيسة الاولى، ولا في المجتمعات الناضجة فعلا في ايمانها، فجميعها لم تهتم بالصحة الجسدية للاخوة فحسب، بل بالصحة الروحية ايضا وبمصيرهم النهائي. وقد اعتبر تقليد الكنيسة “عتاب الخطاة” احد اعمال الرحمة الروحية، ومن المهم استعادة بعد المحبة المسيحية…التوبيخ المسيحي لا يتم بروحية الادانة والتجريم، بل بدافعي الحب والرحمة..”

علينا ان نعطي المثال لابنائنا ليتعلموا اعمال الرحمة، ولا يكفي ان نقوم بها تجاه من نحب، او تجاه من يطلب منا، انما ان نقوم بها تجاه من لا يستطيع ان يبادلنا اياها، ويكافئنا عليه، فالرحمة لا تقتضي ولا تقف عند سؤال مدى استحقاق الاخر لهذه الرحمة بل بمجرد حاجته الى الرحمة.

 

الحذر من ثقافة اللامبالاة

 يشكل هذا اليوبيل لنا اليوم اكثر من اي وقت مضى، دعوة الى الاهتمام بالالام والجراح المتزايدة في العالم، ومحاولة معالجتها وتضميدها بالتضامن والرحمة والتعزية، ويحذر البابا من الوقوع في فخ اللامبالاة التي تذل وفي الاعتياد الذي يخدر النفوس، داعيا الى ان نفتح عيوننا كي نرى بؤس العالم، جراح العديد من الاخوة والاخوات المحرومين من الكرامة، لنشعر باننا مستفزون للاصغاء لصرخة النجدة التي يطلقونها. لنشد بايدينا على ايديهم، لنجذبهم الينا كي يشعروا بحرارة حضورنا وصداقتنا واخوتنا. لتصبح صرختهم صرختنا، ولنهدم معا حاجز اللامبالاة التي غالبا ما تسود لتخفي الخبث والانانية. وهذا ما يسميه رسول الامم بالانتباه الى الاخر: “ولينتبه بعضنا الى بعض للحث على المحبة والاعمال الصالحة” (عب 10/24). الانتباه الى الاخر هو اساس كل عمل محبة، وبالتالي الهروب من اللامبالاة  وعدم الاهتمام الذي ياتي من الانانية.

 

هل المسيحي رحوم بالضرورة؟

  لقد ارسل الله ابنه الينا، فاصبح الله انسانا كي يخلصنا، ويمنحنا رحمته. وقبل ان يطلب يسوع من تلاميذه ان يكونوا رحماء كما الاب، عاش هو هذه الرحمة وجسدها في حياته، فقرب لنا صورة الاب الرحوم، الرؤوف وطويل الاناة. وبالتالي لا يمكن ان يكون هناك مسيحي غير رحوم، بل هو رحوم بالضرورة، فهذا محور البشارة في الانجيل. واذا كان كثير من القديسين قد عاشوا هذه الرحمة اسوة بيسوع الرحوم، وجسدوها بشكل رائع ومثالي في حياتهم، فاننا لانستطيع ان نغفل ما يقوم به الكثيرون اليوم سواء بشكل جماعي من خلال المنظمات والجمعيات والاخويات وغيرها، او بشكل فردي وشخصي. ولنا اسوة هنا في شخص البابا الحالي مار فرنسيس الذي يفاجئنا دوما قولا وفعلا.

 

البابا فرنسيس يكلم العالم بالتزامه اعمال الرحمة

  منذ تسنمه السدة البابوية بدا قداسة البابا فرنسيس بتطبيق اعمال الرحمة، فغسل اقدام السجناء، وعانق مرضى الايدز، وتبرع بالاموال للفقراء ليتيح لهم فرصة الاستمتاع برحلات ثقافية مجانية لكنيسة سيستين ومزار الكفن المقدس في تورينو، وفتح ملجا للمشردين بالقرب من الفاتيكان، واتاح غرف استحمام للمشردين بالقرب من ساحة مار بطرس. ووضع صالون حلاقة لخدمة الرجال المشردين، دون ان ننسى زيارته مؤخرا في شهر نيسان/ابريل الى جزيرة ليسبوس اليونانية، والتي حمل من خلالها تضامن الكنيسة الى اللاجئين والشعب اليوناني، وقربه منهم ومن معاناتهم والمهم الكبير، مصطحبا معه في طريق العودة الى الفاتيكان ثلاث عائلات وقعت عليهم القرعة لايوائهم في الفاتيكان.  

 

 

خاتمة

  علينا ان نتجاوب مع كلمة الرب في الانجيل ونبتنى تعليم الكنيسة في تجسيد اعمال الرحمة في كل لحظة من حياتنا اليومية، فلنلب دعوة قداسة البابا فرنسيس ونضم صوتنا الى صوته ونتلو صلاة القديسة فاوستينا كافالسكا قائلين: “ساعدني يارب كي.. تكون عيناي رحومتين حتى لاتنتابني الشبهات ولا احكم على احد استنادا الى المظاهر الخارجية، كي اعرف كيف ارى ما هو جميل في نفس قريبي وكيف اساعده..يكون سمعي رحوما، كي انحني على احتياجات قريبي، وكي لا تكون اذناي غير مباليتين بالم قريبي وانينه.. يكون لساني رحوما لا يتكلم بالسوء عن القريب، بل يحمل كلمة مؤاساة ومسامحة لكل شخص.. تكون يداي رحومتين ومفعمتين بالاعمال الجيدة.. تكون رجلاي رحومتين كي اهب دائما لمساعدة القريب، متغلبة على قنوطي وتعبي.. يكون قلبي رحوما كي يشارك في معاناة القريب كلها”. (اليوميات، 163).

 

 المراجع

  • الكتاب المقدس
  • البابا فرنسيس، مرسوم الدعوة الى اليوبيل الاستثنائي “وجه الرحمة” 2015.
  • التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، المكتبة البولسية-جونيه، لبنان 1999.
  • Zenit.org
  •  iubilaeummisericordiae.va

شاهد أيضاً

إصدار جديد لسيادة الحبر الجليل مار ازاد شابا

إصدار جديد لسيادة الحبر الجليل مار ازاد شابا تقديم: الاكليريكي ألفير أمجد ضمن سلسلة منشورات …