مقابلة مع الاب يوسف عتيشا الدومنيكي
اجراها/ الاب ازاد شابا
نشر في مجلة نجم المشرق العدد 49 السنة الثالثة عشرة (1) 2007
ارتحالات، تارة من القرية الى المدينة، وتارة من المدينة الى اخرى ابعد، وثالثة من الكهنوت الى الرهبنة، ورابعة من بلده الى بلد اخر غريب… وما بين هذه الارتحالات ذكريات وزملاء وحصاد.. سنعود ونمر بها مع المرتحل الاب يوسف عتيشا الدومنيكي.
س: لنعد الى العهود الاولى، الى مرحلة الطفولة، والبيئة التي نشات فيها والمراحل الاولى في حياتك؟
ج: ولدت في 27 حزيران 1929 في بلدة تلكيف من متي ميخا عتيشا ومية ججو اثويني، وانا اصغر اخوتي: صليوا، ميخائيل، حنية. اذ توفيت والدتي ولم تبلغ الخمسين من العمر، وانا في الرابعة من العمر. احتضنتي زوجة اخي الاكبر (زورته) وكانت تحبني كولدها البكر، كما نلت حنان اخي الاكبر صليوا وطيبته.
اهتم والدي في السنين الاولى بتربيتي، وكان قد فقد البصر في سنينه الاخيرة، وما اعتز به انني نلت منه حب الاصغاء الى الحكايات والقصص ومنها: قصة يوسف بن يعقوب التي كان يسردها بابياتها الشعرية، منشدا، وانا اصغي اليه بشغف. وكان لهذه القصص التاثير المباشر في توجيه طفولتي نحو التردد الى الكنيسة، بدءا بخدمة القداس والتدرب على الاناشيد الطقسية، وحضور صلاة الصباح والمساء، ومرافقة الكهنة في مختلف النشاطات الرعوية، وتعلمت السريانية مع بعض الطلاب على يد الاب اسطيفان قلابات.
اما المدرسة فقد دخلت الابتدائية في السابعة من العمر وانهيت الصف السادس عام 1944.
س: من الطبيعي ان تقوم الدعوة في هذه البيئة الايمانية، لكن اخبرنا عن البذرة الاولى لدعوتك، ومتى التحقت بمعهد مار يوحنا الحبيب في الموصل؟
ج: في احد الايام، بعد صلاة الرمش، عرض علي الاب ماسونا احد الاباء الدومنيكان، الدخول الى المعهد. فرشحني الخوري اسطيفان كجو – المعاون البطريركي – للدخول في معهد معهد مار يوحنا الحبيب، فدخلت يوم 15 تشرين الاول 1944.
كان هذا اول ارتحال في حياتي، وانا فتى في الخامسة عشرة من عمري، فانتقلت من قرية تلكيف الى مدينة الموصل. وكان ذلك في الشهور الاخيرة للحرب العالمية الثانية. وبرغم بعد المعارك عن بلدنا، الا ان تاثيرها كان شديدا على حياة الناس، من حيث التدهور الاقتصادي والفقر. قضيت 10 سنوات في معهد مار يوحنا الحبيب. وكانت فترة الدراسة في المعهد 12 سنة، ست منها في القسم الصغير وست في القسم الكبير. وبعد انتهاء السنة الاولى، رشح الاب المدير خمسة تلاميذ من المتفوقين في الدراسة من السنة الاولى، للانضمام الى الصف الاعلى، وكنت واحدا منهم. فكان علينا بذل المزيد من الجهد للالتحاق بمن سبقونا بسنين، وكان لهذا التقليص في السنوات الاثر المباشر على دراستنا، ولا سيما ما يخص اللغة الفرنسية.
س: من هذه المرحلة في حياتك، العقد الذي قضيته في معهد مار يوحنا الحبيب، من تذكر لنا من الاشخاص ذوي الشان المهم في الادارة ومن الاساتذة ومن زملاء الدراسة؟
ج: اتحدث عن اساتذتي بكل اعتزاز، وفي مقدمتهم المدير الاب جزيف اومي، الذي كان يجيد فن الادارة ويرافقنا في نشاطاتنا، ولا سيما الارشاد الروحي. ولي ذكريات طيبة عن الاب ريشارد القادم من فرنسا سنة 1948، وكان يسهر على صحة التلاميذ ويحرص على القاء الدروس. ومن الاساتذة اذكر الخوري انطون زبوني مدرس اللغتين العربية والارامية. واذكر ايضا في الفلسفة واللاهوت: الاب بارازوت والاب فيرياث والاب بريلي والاب فيار والاب تروادك والاب هودري.
اما زملائي في الدراسة، فاذكر منهم: الاباء فرنسيس اليشوران وجبرائيل ماري وعمانوئيل سعدو وجون عبد الخالق والسيد يوسف ايشو الذي ترك المعهد في السنة الاخيرة من الدراسة، لقد انتقلوا جميعا الى الحياة الخالدة، والاب عمانوئيل الريس ادامه الله.
س: ننتقل الى مرحلة اخرى: مرحلة الكهنوت والخدمة الرعوية، متى تمت رسامتك الكهنوتية وما هي الاماكن التي خدمت فيها وبمعية من من الاخوة في الكهنوت؟
ج: كانت رسامتي الكهنوتية في 15 ايار 1954 على يد المطران (البطريرك) بولس شيخو – اسقف عقرا انذاك. انطلقت الى بلدة تلكيف، لانضم الى الكهنة وعددهم خمسة. ولم يمض شهران على بقائي كاهن جماعة في تلكيف. وسائر الكهنة فرحون بقدومي لمساعدتهم، واذا ببرقية من البطريرك يوسف غنيمة، يامرني فيها بالسفر الى البصرة بطلب من المطران يوسف كوكي الاسقف الجديد للابرشية. كان هذا التعيين المفاجيء مباغتا لي.
انتقلت الى البصرة، وكان هذا ثاني ارتحال في حياتي، اذ عينت مساعدا لخوري الرعية القس عبد الاحد نجار، الى جانب اسقف الابرشية المطران يوسف كوكي الذي رسم اسقفا قبل ثلاثة اشهر.
ولم تمض سنتان، واذا بنكسة صحية اصابتني بمرض عضال، وحاولت العلاج في مستشفى الكويت، ولم الق الشفاء، وبعد سنتين ونصف تركت ترك البصرة والانتقال الى بغداد، ولم انل الموافقة الا بعد ستة اشهر. وانضممت الى ابرشية بغداد في نهاية عام 1956.
وكان تعييني في كاتدرائية ام الاحزان الى جانب ثمانية كهنة يخدمون كنائس الابرشية. وما اعجبني في حياة الكهنة: الالفة الجماعية في دار ملاصق للكاتدرائية ومن هناك كنا نقوم بنشاطات مختلفة، ونخدم في الكنائس المنتشرة في المدينة، ونرجع الى دار الكهنة.
س: لنتحدث عن دعوتك الرهبانية: من اين جاءت وكيف اختمرت، ولا بد ان ذلك تطلب ارتحالا اخر، ماذا تخبرنا في هذا المجال؟
ج: في نهاية سنة 1958 انتخب مار بولس شيخو بطريركا، وكان اول عمل رعوي قام به افتتاح خورنات جديدة، فكانت كنيسة القديسة حنة في حي الكرادة من نصيبي، وكانت فكرة الرهبنة قد اختمرت لدي منذ اشهر، واستعنت بالاب خليل مرشدا. ثم فاتحت البطريرك بفكرتي فوافق على طلبي شرط ان ادبر شؤون الخورنة الجديدة مدة سنة. اثناء ذلك قدمت طلبا للاباء الدومنيكان للانتماء الى الرهبنة. ثم طلبت الاذن من المجمع الشرقي في روما، فاستجيب طلبي.
هكذا كان الارتحال الرابع، فرحلت الى بلد غريب، وانا في سن الثلاثين. وبعد سنين من الابتداء والدراسة والتخصص، قفلت راجعا الى العراق في صيف 1965، بعد حصولي على الدبلوم التخصصي.
س: سؤال اخير، لو طلبت منك ان تجمل باختصار حصاد عمرك ونتاج خدمتك التي جاوزت خمسة عقود على كافة الصعد رعويا وتعليميا وفكريا، فماذا تقول؟
ج: اتحدث عن فترة خصبة للعمل الرسولي، واختصرها كالاتي:
- مساعدة الكهنة في اقامة القداديس في معظم كنائس بغداد، اذكر منها: كنيسة مريم العذراء سلطانة الوردية، كنيسة مار كوركيس، كنيسة الصعود، كنيسة مريم العذراء/ شارع فلسطين…
- محاضرات وارشادات في مركز القديس يوسف (السنتر): للاخوية المريمية، ولجنة التثقيف المسيحي. ومحاضرات في مختلف الكنائس، واديار الراهبات، دروس في كلية بابل والمعهد التثقيف في بغداد.
- القاء دروس التربية المسيحية في ثانوية القديس توما (دجلة قبل تاميم المدارس) والقديس يوسف (مكاسب الابتدائية).
- محاضرات في الدورة اللاهوتية منذ بدئها 1984 الى 2003 حيث اغلقت مع الحرب.
- تحرير مقالات في مجلة الفكر المسيحي منذ 1972 وحتى اليوم. وفي مجلات اخرى: نجم المشرق، ربنوثا، البشرى اللبنانية، فجمعت معظم هذه المقالات في كتاب تحت عنوان (حصاد العمر) وطبع سنة 2006.
- تاليف وترجمات بلغ عددها 13 كتابا. والبعض منها بالتعاون مع الاب البير ابونا، مشكورا، في مراجعته الكتب لغويا.