بيتنا الكبير يحترق؟
في هذه الايام من الصيف، يشهد الكون تقلبات مناخية غير مسبوقة، فبينما نلحظ ارتفاعا كبيرا في درجات الحرارة في منطقة ما، نشاهد في الوقت نفسه نشاهد في منطقة اخرى متاخمة لها او قريبة منها، امطارا غزيرة وبردا وفيضانات كحالة غير مالوفة. يبدو ان بيتنا الكبير على وشك ان يحترق، والارض بدات تصرخ وتستغيث، فمالعمل؟
حالة طوارىء!
“موجة حر شبيهة بحالة الغليان في (طنجرة الضغط) حطمت الارقام القياسية لدرجات الحرارة مرتين خلال 48 ساعة في شمال غرب الولايات المتحدة وغرب كندا، كما انعكس الامر عبر اجزاء كبيرة من نصف الكرة الارضية الشمالي”، هذا ما كتبه الموقع الرسمي للامم المتحدة خلال الايام الماضية. وكانت الاخبار قد نقلت عن حالات من الوفيات ونشوب حرائق كبيرة بسبب الحر الشديد في كندا حيث قاربت درجات الحرارة الخمسين درجة. (والان اذ كنت بصدد تحرير هذا المقال، الاخبار تتحدث عن حرائق مهولة في كاليفورنيا). في شمال ايطاليا عواصف اقتلعت الاشجار وامطار غزيرة وبرد بحجم كرة التنس (المضرب)، اما في وسطها فدرجات الحرارة قد وصلت الى الاربعين. في الشرق الاوسط ازمات مياه وتصحر بسبب قلة الامطار وبسبب عدم تحمل المسؤوليات سواء من جهة الدول والحكومات او بسبب قلة الوعي البيئي عند الافراد والتجاوزات الصارخة على البيئة. وفي افريقيا تصعيد وتهديد بين مصر والسودان من جهة واثيوبيا من جهة اخرى بسبب انشاء الاخيرة لسد ضخم على نهر النيل، وما الى ذلك …
واضح وجلي ان ازمة البيئة اخذت تتفاقم، والبابا فرنسيس في رسالته الخاصة حول الازمة البيئية كان نبه الى ما ستؤول اليه الحال والعواقب الوخيمة التي ستاتي على البشرية ان لم يتم البدء بتدارك الموقف سريعا: “اذا استمر التوجه الحالي، فان عصرنا هذا سوف يشهد تغيرات مناخية لم يعرفها من قبل، وتدميرا غير مسبوق للنظم البيئية، ترافقها عواقب وخيمة لنا جميعا” (البابا فرنسيس، لك التسبيح 24، 2015).
المسؤولية تجاه بيتنا
عطفا على ذلك، فان البشرية اليوم هي في مواجهة مع واحدة من اخطر الازمات، وهي ازمة البيئة التي تشكل تهديدا للحياة على الارض، وذلك من جراء سوء استخدام الانسان لكثير من الاشياء وتجاوزه على الكون، ومن جراء الصراع من اجل البقاء باي ثمن، وفرض هيمنة الاقوى. اضافة الى قلة الوعي لخطورة الموقف، وعدم استيعاب العامة واداركهم للمخاطر.
هذا الكون الذي نعيش في كنفه، هو هدية رائعة من فنان مبدع، من الله الخالق للانسان المخلوق، والاخير مدعو ايضا الى الابداع والى المشاركة في عمل الله وبناء العالم غير المكتمل، فما اعظمها من مسؤولية، فاين نحن منها؟ والانسان كونه جزءا من هذا الكون، مرتبط به بعلاقة سامية، لكونه يمتاز عن كل المخلوقات بعقله ووارادته وحريته ووعيه، فهل هو اهل للتجاوب، وهل هو قادر على تحمل اعباء مسؤوليته ازاء الخليقة الذي هو مؤتمن عليها؟
بين الحين والاخر، تنظم اجتماعات وتعقد مؤتمرات، وتؤسس منظمات وتشكل لجان، وتعلو اصوات، اخذة على عاتقها مسؤولية توعية الناس ومناشدة المعنيين وذوي السلطة بالتضامن وعلى العمل على الحد من التجاوزات على الطبيعة، وتلويث البيئة وتدميرها.
ثمة دول تعمل بكل ما اوتيت من قوة وصرامة للحفاظ على البيئة ونظافتها وانماء الحياة فيها، ولكن في المقابل هناك الكثير من الدول التي لا تابه للمسالة، وكانها غير معنية بالامر، معتقدة ان الضرر لن يصيبها. وهناك دول اخرى تستحدث حقيبة وزارية باسم البيئة، لكنها ليست الا وزارة شكلية او حقيبة لارضاء طرف ما. اما الدول القابعة في ظلال الفقر او تلك التي تعاني من ويلات الحروب، فان الاخطار البيئية والتلوث يكون فيها على اشده. وتنعكس الاثار المدمرة للحروب وما يترتب عليها من قتل وانتهاك للانسان والحيوان والنبات على السواء، بل والتلوث الذي يصيب الماء والهواء، يمكن لمسه في ارتفاع درجات الحرارة وندرة المياه والجفاف والتصحر.
ما هي حدود مسؤولياتنا، ماذا علينا ان نعمل؟
علينا العمل جماعيا لتطويق الازمة وتحجيمها، بتنشئة الاجيال في البيت والمدرسة على النظافة والشعور بالمسؤولية تجاه الاشياء والطبيعة والانسان. وزيادة الوعي لدى الجميع على كل الصعد، وخصوصا على صعيد وسائل الاعلام المتنوعة. واذا كان لابد من بعض الاستهلاك والاستغلال في العالم لسد الحاجات، فانه بالمقابل ينبغي ايضا الاستخدام الصحيح لكل شيء وعدم التبذير، بل والمحاولة لتعويض النقص، ولا سيما زيادة المساحات الخضراء، وزراعة الاشجار، ومعالجة العوادم السامة التي تنفثها المعامل والمصانع والمركبات واعادة تدوير النفايات بالطرق الصحيحة.
اذن، نحن مدعوون الى التضامن لايجاد طرق مسؤولة تسهم في نمو حياة انسانية لائقة ورفيعة، تنسجم ومكانة الانسان وقيمته، وذلك بالتناغم مع الطبيعة والحياة والحفاظ عليهما. وعلينا التفكير مليا وبجدية ومسؤولية، بشكل الخليقة الذي سنتركه للاجيال القادمة، وفي هذا الصدد يشير البابا فرنسيس: “نحن لسنا الله. والارض كانت من قبلنا وقد اعطيت لنا (…) فكل مجتمع يمكنه الحصول على الخير الذي يحتاجه من الارض للبقاء على قيد الحياة، ولكن عليه ايضا واجب حماية الارض وضمان استمرارية خصوبتها للاجيال القادمة” (البابا فرنسيس، لك التسبيح 67).
من هنا، فان بيتنا هذا الكبير سيكون في امان ولن يحترق، خاصة ان اخذنا على عاتقنا اصلاح علاقتنا بالكون، وابدينا محبتنا للارض.