الاب ازاد شابا
نشر المقال في مجلة نجم المشرق، العدد 50 السنة الثالثة عشرة (2) 2007
يوم التكريس يوم مشهود
في يوم ربيعي جميل من ايام ربوع شمال العراق الحبيب، قام غبطة مار عمانوئيل الثالث دلي، بطريرك بابل على الكلدان، يساعده صاحبا السيادة المطران سرهد – يوسب جمو والمطران جاك اسحق، بتكريس كنيسة “الشهداء” الجديدة في شقلاوا، وذلك في تمام الخامسة من مساء يوم الجمعة الموافق 12 ايار عام 2006، وبعد التكريس اقام غبطته اول قداس فيها.
كان هذا النهار يوما تاريخيا مشهودا في حياة مؤمني ابرشية اربيل بصورة عامة، وفي حياة مؤمني شقلاوا بصورة خاصة، لم يشهدوا مثيلا له من قبل، فلقد حضر هذه المراسيم اصحاب السيادة المطارنة الكلدان، الذين عقدوا السينودس البطريركي في شقلاوا للفترة من 9 -11 ايار 2006، كما حضر عدد كبير من الاباء الكهنة والرهبان والراهبات وجمع غفير من المؤمنين.
فكرة انشاء كنيسة جديدة والخطوات الاولى
نظرا للموقع غير الملائم لكنيسة شقلاوا المشيدة سنة 1965 على اسم “انتقال مريم العذراء”، وصغر حجمها، وتأكل بنائها، على الرغم من اعمال الصيانة المتتالية، فضلا عن معاناة الشيوخ والنساء التي كان يسببها لهم نزول وصعود درجات السلالم الكثيرة المؤدية اليها، فقد قر تفكيرنا، منذ التسعينات، على تشييد كنيسة جديدة.
وبدانا بالخطوة الاولى لاختيار ارض ملائمة، فلم نجد افضل من القطعة الحالية، التابعة لاوقاف خورنة شقلاوا، بسبب موقعها ومساحتها التي تبلغ 2175م، وقد شقها الشارع الى قسمين: قسم كبير شيدت الكنيسة عليه، وجعل القسم الاصغر مرابا للسيارات.
فاتحنا، بعد ذلك، المسؤولين في حكومة اقليم كوردستان العراق، وبعد مراجعات عديدة، وافق هؤلاء السادة الاكارم على تنفيذ المشروع كاملا بكونه هدية من الحكومة. التقينا بعد ذلك بالمهندس مالك صبري قذيفة، الذي قام باعداد التصاميم والكشوفات. وبعد ثلاث سنوات بوشر بالعمل في 1 تموز 2004، من قبل منظمة اعمار كوردستان KRO التابعة لمجلس الوزراء.
اسباب اختيارنا تسمية “الشهداء”
مذ خطرت على بالنا فكرة انشاء كنيسة جديدة، ساورتنا مسالة التسمية، واردناها تسمية متميزة ونادرة وذات تماس بنا وبتاريخنا المشرقي، فوقع اختيارنا على تسمية “الشهداء” لاسباب عديدة، منها:
- اكراما لشهداء كنيستنا المشرقية عموما، الذين اراقوا دماءهم على مر التاريخ من اجل المسيح والمسيحية.
- بسبب مكانة الشهداء المرموقة في كنيستنا المشرقية، التي تسمى “كنيسة الشهداء”، ولقد وضعت مؤلفات عديدة عن “سير الشهداء”، نشر عنها الاب بيجان مجلدات عديدة، ونقل الى العربية المطران ادي شير عددا كبيرا منها، وترجم الاب البير ابونا قسما مهما منها ونشر الجزء الاول، وننتظر الاجزاء الاخرى.[1]
- تخليدا لذكرى شهدائنا من ابناء شقلاوا الذين سقطوا بين الحين الاخر، وابرزهم: الشهيدة سارة وهي فتاة استشهدت عام 1878 طعنا بخنجر، لانها لم تجحد ايمانها وهي انذاك في ربيع العمر، والمطران العلامة ادي شير الذي استشهد بتاريخ 17 حزيران 1915، والكاهن الغيور الاب يوحنا شير الذي استشهد بتاريخ 28 اذار 1986.
- لابراز دور الشهادة في الكنيسة وتواصلها في كل زمان ومكان، ولوضع مثال الشهداء البطولي، الذين سقطوا للبقاء امناء للمسيح ولمبادىء الانجيل، امام المؤمنين.
- ولندرة هذا الاسم الجميل.
الهيكل الهندسي الانشائي للكنيسة
شيدت الكنيسة على قطعة ارض مساحتها 50 في 70م تقريبا، والقطعة ليست مستطيلة الشكل بسبب موقعها، اما المساحة التي تشغلها الكنيسة فهي 31 في 50م بضمنها المماشي.
تتكون بناية الكنيسة من الصحن (القاعة) 30 في 20م، بدون اي مساند داخلية، تتسع لاكثر من 900 مصل، والطبقة العلوية (الكاغولتا) مساحتها 11 في 18م، مع اضافة غرفة الشرفة بابعاد 3 في 6م التي يمكن استخدامها للاجهزة الصوتية.
تم بناء الجدران بالطابوق الفني وبعرض 40 سم. تتميز الكنيسة ببرج الناقوس الذي يرتفع 22م، مسقف بالقرميد، ركب فوقه صليب ضوئي لجعله شاخصا معماريا بصريا، يشير الى مبنى الكنيسة، يجعل منه علامة دلالية بصرية الى الكنيسة.
شيدت القبة الامامية على المذبح بارتفاع 16م، يعلوها تصميم على شكل فانوس، وتبدو القبة مثمنة، نفذ سقف القبة بالقرميد، يعلوه صليب ضوئي.
نفذ السقف النهائي للكنيسة من طبقتين من الجنكو المضلع، بينهما طبقة فايبر كلاس بسمك 6 سم، وغلفت السقيفة بشكل كامل بالقرميد الاحمر.
نفذ التغليف الخارجي للكنيسة بالحجر الحلان الاملس والبشت ايت، وغلف من الداخل بالمرمر الى الشبابيك، عدا منطقة المذبح التي غلفت بالجص، وغلفت السقيفة بالسقف الثانوي.
احياء الريازة والطقوس الشرقية للكنيسة الكلدانية
مع الحداثة، اردنا تزيين الكنيسة بابراز العناصر الاساسية لريازة الكنيسة المشرقية الاصلية الاتية:
- خيمة الاجتماع: اول خيمة في كنائس الكلدان
ان ابرز ما يميز قدس اقداس هذه الكنيسة الجديدة، عن سائر الكنائس الكلدانية المعاصرة، هو اقامة خيمة الاجتماع او خيمة العهد فوق المذبح من الخشب على يد احد النجارين الماهرين. هذه الخيمة التي اهملتها كنائسنا الكلدانية، ولكنها كانت موجودة دون شك في كنائس ما بين النهرين، فلا زالت اثارها قائمة في كنيسة دير الربان هرمزد قرب القوش، حيث نجد قواعد اعمدة الخيمة حول المذبح، كما ان الكنائس الشرقية والغربية قد احتفظت بها كالكنائس السريانية والارمنية واللاتينية، ونفتخر ان نكون اول من قام باحياء هذا التقليد العريق الغني بمعانيه الروحية واللاهوتية في كنيستنا الكلدانية.
جدير بالذكر ان هذه الخيمة كانت مخصصة في العهد القديم للعبادة بموجب تصميم اعطاه الله لموسى على جبل سيناء (خروج 38: 21)، وكانت مركز حياة العبرانيين الدينية، وعلامة لحضور الله بينهم.
- البيما
شيدنا “البيما” امام قدس الاقداس، والبيما موضع مرتفع قليلا عن مستوى ارضية الكنيسة، يجلس عليه الاكليروس، اي المطران والكهنة والشمامسة، خلال رتبة كلام الله في القداس واثناء تلاوة الصلوات الفرضية، ووضعنا عليه منصتين خشبيتين رائعتين، فجعلنا المنصة الاولى في الجهة اليسرى لتلاوة قراءات العهد القديم وجعلنا المنصة الثانية في الجهة اليمنى لتلاوة قراءات العهد الجديد، كما تقتضيه المتطلبات الليتورجية.
- بيت الشهداء
كان “بيت الشهداء” او “بيت القديسين” عبارة عن غرفة يحتفظون فيها بذخائر الشهداء والقديسين شفعاء الكنيسة، ويتلون فيها صلاة الشهداء ايام الاحتفال بعيدهم. كاانت هذه الغرفة تقع في منتصف جدار الكنيسة الشمالي لكي يتيسر دخول الرجال والنساء اليه على حد سواء.
اما نحن، فلقد جعلنا بيت الشهداء على مذبح صغير في الجهة الشمالية، فوضعنا فيه ذخائر من ضريح الشهيدة سارة، ومن مزار الربان بويا وصليب منقوش على قطعة قماش يرتقي عهده الى اكثر من خمسة قرون من المزار نفسه، اضافة الى قطعة من (سوتانا) ثياب الاب يوحنا شير وهي مضرجة بدمائه.
- بيت العماذ
ان بيت العماد هو عبارة عن غرفة صغيرة تقع بجانب المذبح من الجهة الجنوبية، فيها مذبح صغير يوضع عليها الصليب والانجيل، وفي الزاوية اليمنى يقع جرن العماذ الذي يرمز الى نهر الاردن.
اللوحات الفنية
قام الفنان البارع ماهر حربي[2] بتزيين بيت الشهداء وبيت العماذ بعملين فنيين رائعين. يدور موضوع العمل الاول حول استشهاد الشابة الشقلاوية سارة، وتناول العمل الثاني موضوع عماذ يسوع.
في ما ياتي وصف مختصر لهذين العملين:
يتكون كل عمل من هذين العملين ثلاثة اجزاء متحركة ومرتبط بازرار، فحينما تكون هذه الاجزاء الثلاثة مفتوحة، نجد انفسنا امام ثلاث لوحات، وحينما تكون مغلقة، نجد امامنا لوحة واحدة، على النحو الاتي:
لوحة الشهادة
حينما يكون هذا العمل الفني مفتوحا:
القسم الوسطي: يمثل الشهيدة سارة مع اخيها محاطة برموز المجد: اكليل الغار وشعاع قزحي واللهب والصليب والخبز وكاس التقدمة والشمعة والبخور. اما القاتل فهو في العتمة محاط برموز الخنجر والمسامير والجمجمة.
المطبقة اليمنى: تمثل رموز الشر من رماح وفؤوس واشواك وذئب وافعى، وفي الاسفل شجرة ميتة، والاية: “من يصبر الى المنتهى يخلص” (متى 10: 22).
المطبقة اليسرى: مجموعة رموز خيرة والاية: “من لا يحمل صليبه…” (متى 10: 38، 14: 7)، وغصن زيتون وشجرة الحياة بالوان الفرح.
تحتوي جميع المطبقات في الاعلى على شعاع قزحي وغيمة تعبيرا عن العهد الدائم بين الله والانسان الذي يمطر غيثه على الاخيار والاشرار.
حينما يكون العمل الفني مغلقا:
نجد امامنا اكليل الشوك والاستشهاد محيطا بالصليب، وتحته باقتا زنبق متتعانقتان والاية الانجيلية بالكلدانية: “من احب اباه وامه…” (متى 10: 37-39).
لوحة العماذ
حينما يكون العمل الفني مفتوحا:
القسم الوسطي: نشاهد يوحنا المعمذان والاية بالكلدانية: “هذا هو ابني الحبيب…” (متى 3: 17) مع رمز الحمامة النازلة من السماء والصليب واللهب والشوكة ويسوع يتقبل العماذ.
المطبقة اليمنى: نرى نجمة وجناحين ويدا وناقوس بشرى وشوكا وراس حمل ونبتة، وجرة كتبت عليها الاية “واعتمذ في نهر الاردن” (مرقس 1: 9).
المطبقة اليسرى: نجد نجمة ولهبا وشمعة وحارسا مجنحا وبخورا وغصن زيتون واناء طيب وقارورة كتبت عليها عبارة “ميرون”.
في اسفل المطبقات الثلاث ماء وصخور ونباتات.
واجهة العمل حينما يكون مغلقا:
جسر من المعمذين وفيض النهرين وحمامة نازلة مع الاية الانجيلية بالكلدانية: “وشهد يوحنا قال… ” (يوحنا 1: 32-3).
خاتمة
هكذا تكون كنيسة شقلاوا اول نموذج بنائي للكنائس، يحوي سعة من الداخل ويتماشى مع البيئة والمجتمع المحيط، ويستعرض ويعيد احياء صور وعناصر رمزية طقسية كان الزمان قد قسا عليها وادركها النسيان، فاصبحت اثرا قديما نجده بين طبات كتب التاريخ فحسب.
[1] بول بيجان، شهداء المشرق بالكلدانية، عدة مجلدات – باريس – ليبسيك، القرن 19/ 20.
- ادي شير (المطران)، شهداء المشرق، مجلدين، الموصل 1900 – 1906.
- البير ابونا (الاب)، شهداء المشرق، الطبعة الثانية، بغداد 2006.
[2] ولد بالفنان ماهر حربي في الموصل عام 1945، وتخرج من اكاديمية الفنون ببغداد 1969، له نشاطات فنية عديدة ومتنوعة، منها: رسم لوحات كثيرة في كنائس واديار وبيوت خاصة في العراق. قدم سبعة معارض شخصية وشارك في 98 معرضا داخل العراق وخارجه، قام باعمال نحتية ونوافذ زجاج ملون، له اسهامات كثيرة في الكتابة الفنية والادبية. انه عضو في نقابة الفنانين العراقيين منذ 1974، اسس “جماعة نينوى للفن الحديث”، حائز على وسام الفن.