الاب ازاد شابا
- بالامس القريب، طالعتنا الاخبار والصور الاولى من على شاشات التلفاز من الصين وبالتحديد من مدينة ووهان عام 2020 ظهور جائحة كورونا، ثم تابعنا مشهد شاحنات الجيش الايطالي في الشمال وهي تنقل جثث الضحايا، وما تبع ذلك من حجر شامل واغلاق تام في معظم البلدان والاقطار، وجاءت صور ظهور البابا فرنسيس لوحده في ساحة مار بطرس عشية عيد الفصح … لتضعنا ازاء مشاهد مخيفة لا بل مثيرة للذعر.
- وايقظت الجائحة الجديدة فينا رغبة الغوص في التاريخ والماضي، لنبش اوراقه سبيلا لايجاد اجابة او تعزية نتعكز عليها، وبحثا عن امل او مخرج مما نحن فيه، فذاكرتنا كذاكرة السمك، ذاكرة باهتة، تتعطل سريعا. والنتيجة مفادها، ان الالم والموت والاوبئة ملازمة للانسان ورفيقة له. ففي القرن المنصرم وحده كان هناك اكثر من وباء ضرب البشرية، اشهرها كان وباء الانفلونزا الاسبانية التي انتشرت بعد الحرب العالمية الاولى بين 1918-1920، والتي قضت على الملايين، وان اختلفت الاحصائيات حول العدد الحقيقي للضحايا، فمنهم من يقول 20 مليونا، ومنهم من يقول 50 واخرون قالوا 100 مليون.
- الجائحة غيرت امورا كثيرة في سلوكياتنا فجعلتنا نعتاد على ما لم نكن معتادين عليه من قبل، لبس الاقنعة او الكمامات، وارتداء القفازات، استعمال المعقمات، الالتزام بالتباعد الاجتماعي، عدم المصافحة، عدم تبادل القبلات والاحضان، عدم التكمن من زيارة مرضانا في المستشفيات، وهذا انسحب على ممارساتنا وتادية طقوسنا في الكنيسة، فلا ماء مقدس عند المدخل، ولا تبادل للسلام بالطريقة المعهودة (المصافحة)، ولا المناولة بالفم. والموقف الاكثر ايلاما تمثل بصعوبة اقامة مراسيم الدفن وعدم قدرة بعضهم من الحضور والمشاركة والقاء النظرة الاخيرة وهم يودعون احبتهم الى مثواهم الاخير.
- الجائحة ضربت الانسان في كينونته وصميمه، اذ هو كائن اجتماعي علائقي. وما زاد من شدة الالم هو عدم قدرته على التواصل مع مرضاه او زيارتهم او تقديم الدعم المعنوي والسند النفسي لهم والوقوف الى جانبهم عن قرب، في وقت احوج ما يكون المريض الى حضور اهله واصدقائه. واكثر من عانى خلال فترة الجائحة هذه، هم المرضى والمسنين الذين اضطروا الى العزلة والحجر سواء اختيارا ام قسرا. الحجر والاغلاق لم يكونا سهلين على الاطلاق ولاسيما على الشباب والاطفال الذين هم الاحوج الى التواصل الجسدي اوالحركة وتصريف الطاقة الكبيرة التي يمتلكونها.
- الجائحة كشفت مواطن ضعف الانسان فردا وجماعة. فمن ناحية، اسقطت ورقة التوت التي كانت تتستر بها الدول والحكومات وكشفت عورتها، فضحت كبرياء الانظمة والمجتمعات، كسرت قدرة المال والممتلكات، ضربت تباهي المتكبرين والمتشامخين، ازالت المراكز والجاه، دمرت الاقتصاد والاعمال، وشلت الحياة والحركة. ومن ناحية اخرى، غيرت ملامح علاقاتنا الاجتماعية، حبست بعضهم في بيوتهم، باعدت بين الاهل والاصدقاء، سرحت كثيرين من عملهم، اوقفت برامج والغت مشاريع وأرجات مخططات وحطمت احلام كثيرين.
- الجائحة طالت مئات الملايين من البشر في العالم، ولم تقتصر على فئة دون اخرى، فاصابت الكبار والصغار، المرضى والاصحاء، الجيش الابيض وملاكاته، لا بل حتى الرياضيين لم يسلموا منها. منهم من تمكن من هزمها ومنهم من هزمته، فسلبت منا وللاسف احباء واصدقاء. وهناك من لايزال يعاني من اثار وتبعات الاصابة الى يومنا هذا.
- ازاء التعامل والتعاطي مع هذه الجائحة، احيانا نكون كالاطفال والمراهقين، نريد تحقيق رغباتنا بسرعة، لا صبر لنا، لا نقدر على التاجيل، لا نعرف الانتظار، لا نرغب باطاعة القوانين ولا الالتزام بالتعليمات، واحيانا اخرى تجدنا متمردين، نرى الامور من زاوية واحدة، غير منضبطين، غير قادرين على التحكم وغير حكيمين، ولا نقدر الامور وعواقبها، ونريد ادراك متطلباتنا وحاجاتنا على الفور دون تاخير. نحن امام مسؤولية اخلاقية وضميرية، هي مسالة حياة او موت. علينا ان لا نكون جسرا لنقل العدوى، بل جدارا يقف بوجه الفايروس، وان نحرص على تصرفاتنا، ونكون اكثر وعيا ومسؤولية ولاسيما ونحن لازلنا في خضم الكارثة.
- ما ان تحل علينا مشكلة او ازمة او ضائقة، حتى تخرج منا سمات انسانية جميلة، من الوحدة والتضامن والتعاطف. وحالما نعبر الى بر الامان حتى نعود الى روتيننا وغطرستنا وكبريائنا … انه حال الانسان في الكتاب المقدس حين يعجز وتضيق به الحيل، يعرف ان يتوجه، الى الله. وبعكسه فهو مشرك، متمرد، ناكر للعرفان وناس للجميل.
- حين اثمرت جهود الباحثين في ايجاد لقاحات مضادة لجائحة كورونا (وان جاء ذلك في وقت قياسي نسبة الى الخبرات السابقة) استبشر العالم خيرا، وتسارعت الحكومات في الشراء لكي تحصن شعوبها، ولكن بعضهم وقف بالضد منه، سواء اكان خوفا من نتائج اللقاحات، ام اعتمادا على الاشاعات، ام بناء على عقلية المؤامرة لدى بعض الثقافات، فتذاكى الفايروس وتحور لاكثر من مرة وازداد شراسة وعدوانية، فكانت طفرات عديدة وموجات مختلفة.
- الجائحة عابرة للحدود وضربت العالم اجمع، ولن يتم القضاء عليها بالسلوك الاناني للدول الغنية والشعوب المتحضرة لوحدها، لابد من تظافر جهود الجميع لمواجهتها. والمواجهة ينبغي ان تكون بالتضامن والتعاون والعمل بنسق واحد، وتوزيع اللقاحات بشكل مناسب لكل البلدان والشعوب كما الاواني المستطرقة، فلا فائدة من تحصين بلدان دون اخرى، فالعالم اليوم قرية صغيرة، والحدود مفتوحة والسفر قائم، والجميع امام عدو واحد مشترك، خفي وقاتل، ومصيرنا ايضا واحد وكلنا في المركب ذاته.
ما الذي يمكننا ان نستلهمه او نستمده من هذه الازمة:
- خطا الانسان في محاولته ازاحة الله وازالته: مما يعني ازالة الحياة والاشياء.
- خطا التمركز حول الذات والانا، ومن ثم وجوب اعطاء فسحة للاخر.
- التامل في وجودنا، في حياتنا، في رسالتنا ودعوتنا كبشر.
- اعادة بناء علاقاتنا الانسانية، علاقاتنا مع بعضنا بعضا، علاقاتنا مع بيئتنا، مع الكون وما فيه: الارض والحيوان والشجر والجماد..
- مراجعة الاولويات في حياتنا واعادة النظر في الامور المهمة.
- تحويل ما حدث الى فرصة للنضوح وتحمل المسؤوليات.
- اليقين ان لا شيء مضمون او مؤكد في هذه الحياة، رغم كل الضمانات التي تقدمها لنا الحكومات او الشركات او الاشخاص.
- محاربة الشر، والتخفيف من الالم والقبول بالموت.
- ادراك هشاشة الانسان ومحدوديته وعدم قدرته على التحكم بالامور والاشياء.
- قيمة الحرية وعظمتها، خاصة عندما نكون مجبرين على التزام البقاء في البيت، او نكون مضطرين لاطاعة القوانين والتعليمات.
- البشرية في مركب واحد، تواجه مصيرا مشتركا، والجائحة وحدت الجميع في مواجهة هذا العدو الخفي القاتل.
- معنى التضامن والتقارب ومد يد العون والمساعدة وحمل اثقال الاخرين وخاصة من هم اكثر حاجة واكثر فقرا.
- اهمية البراعة والابداع والاختراع من خلال الدراسات والبحوث التي اجريت ومازالت تجري للوصول الى لقاحات او علاج لانتشال الانسانية من واقعها الماساوي.
- ان نتعلم كيف نكون ممتنين للأشياء الجيدة التي حصلنا عليها والتي لدينا.