سنة العائلة ودعوة مجددة لقراءة “فرح الحب”

تقديم موجز: الاب ازاد شابا

مقدمة

سنة جديدة محورها العائلة، افتتحها البابا فرنسيس في 19 اذار 2022، ومن المؤمل ان تختتم في 26 حزيران 2022 في روما بمناسبة اللقاء العالمي العاشر للعائلات. وبهذه المناسبة يدعونا البابا الى العودة الى الارشاد الرسولي “فرح الحب” في الذكرى الخامسة لصدوره.

هذا الارشاد الذي يحاول التصدي لمسائل مختلفة ومتنوعة: اجتماعية، واخلاقية، وروحيّة، ورعويّة، هو ثمرة مشاركات السينودسَين الأخيرين حول العائلة، اللذين عقدا عامي 2014 و 2015، وحصيلة دراسات معمقة ومناقشات طويلة ساهمت فيها الابرشيات الكاثوليكية في العالم من خلال اكليروسها وعلمانييها وغيرهم من ذوي الشان والاختصاص.

انها رسالة رائعة وشاملة تستحق ان نمنحها من وقتنا، وعلى الخصوص بالنسبة للمتزوجين الجدد او المقبلين على الزواج ليعتمدوها دستورا لمسيرتهم ومنهجا لحياتهم.

بناء على هذه الدعوة، استعرض هنا محتوى الارشاد بفصوله التسعة وبشكل مقتضب، على امل تشويق القراء في مطالعته باهتمام وتمعن للتعمق فيه والاستلهام منه لعيش الحب بفرح ومواجهة التحديات التي تواجهها العائلة اليوم.

الفصل الاول: على ضوء كلمة الله

ينطلق الارشاد الرسولي في فصله الاول، من الكتاب المقدس المليء بالعائلات والاجيال وبقصص الحب وبالازمات العائلية، ابتداء من عائلة ادم وحواء، حيث يترك الرجل اباه وامه ويلزم امراته ويصير الاثنان جسدا واحدا (تك 2، 24). فالزوجان المتحابان هما المنحوتة او الايقونة الحقيقية الحية القادرة على اظهار الله الخالق المخلص. لهذا فالحب الخصب المثمر المنفتح على الحياة هو رمز لله، وصورة للثالوث، فالله الثالوث هو شركة حب، والعائلة هي انعكاس لهذا الحب. وهي المكان الذي ينبغي على الأهل أن يصبحوا فيه أوّل معلمي الإيمان لأبنائهم. والابناء بدورهم يخطون مسيرتهم الشخصية في الحياة بطاعتهم وخضوعهم لوالديهم، ولكهنم ليسوا ملكية لهم.

فالعائلة مدعوّة لتشارك في الصلاة اليوميّة، وقراءة كلمة الله والمناولة الإفخارستيّة، كي تجعل الحبّ ينمو، وتتحوّل أكثر فأكثر إلى هيكلٍ لسكنى الروح القدس.

الفصل الثاني: واقع العائلات وتحدياتها

يتناول الفصل الثاني موضوع الصعوبات والتحديات التي تواجهها العائلة في زمننا الحاضر، من هذه التحديات:

– الخطر المتزايد الذي تشكّله النزعة الفردية المبالغ فيها والتي تشوّه الروابط الأسرية، وتنتهي باعتبار كلّ فرد من أفراد الأسرة “كجزيرة”، مُعطيةً الأولوية، في بعض الحالات، إلى فكرة الفرد الذي يبني ذاته وِفقًا لرغباته التي تُعتَبَر مطلقة.

– وهناك انتشار لظاهرة “ثقافة المؤقت”، مثل السرعة التي ينتقل بها الشخص من علاقة عاطفية الى اخرى، معتقدا ان الحب، كما في شبكات التواصل الاجتماعية، يمكن أن يتصل أو أن ينفصل حسب مزاج المستهلك أو أن يُوَقّف سريعًا. إنها النرجسية التي تجعل الأشخاص غير قادرين على أن ينظروا إلى أبعد من ذواتهم، ومن رغباتهم وحاجاتهم.

– للعائلة الحقّ بمسكنٍ لائق، يصلح لحياة العائلة، ويتماشى مع عدد الأفراد. العائلة والمسكن هما أمران لا غنى لأحدهما عن الأخر.

– يعد الاستغلال الجنسيّ للأطفال واقعا مأسويا ومنحرفا في المجتمع الحاليّ، وتعتبر التعديات الجنسية على الأطفال أكثر خِزيًا عندما تحدث في الأماكن التي يجب أن توفر الحماية، وخصوصًا في العائلات، والمدارس، والجماعات والمؤسّسات المسيحيّة.

– وتُشكِّل الهجرة علامةً أخرى من علامات الأزمنة التي ينبغي مواجهتها وفهمها بكل عبء تأثيراتها على الحياة العائليّة الهجرة القسرية للعائلات بسبب أوضاع حروب واضطهادات وفقر وظلم.

– والعائلات التي لديها أفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة، اذ تعيش تحديًّا عميقًا وقاسيا، فانها تستحق كلّ التقدير وهي تتقبَّل بمحبّة هذه المحنة الصعبة. اما ذوو الاحتياجات الخاصة انفسهم، فهم يشكلون، عطية وفرصة للنمو في الحب وفي التعاون المتبادل والوحدة.

– إن الاضطهادات التي يتعرَّض لها المسيحيُّون، وكذلك الأقلّيّات الإثنيّة والدينيَّة الأخرى، في أماكن مختلفة من العالم، وخاصة في الشرق الأوسط، تمثِّل محنة كبرى. لذا يجب تعزيز كلّ جهد كي يؤمِّن استمراريَّة العائلات والجماعات المسيحيّة في مواطنهم الأصليّة.

– كما ان “الموت الرحيم” و“المساعدة على الانتحار” يشكلان تهديدين خطيرين لكل العائلات في العالم بأسره. تشجب الكنيسة بصرامة هذه الممارسات.

الإدمان على المخدِّرات هو جرح يمزق العائلات، ويهدمها. وهذا ما يحدث مع إدمان الكحول، والقمار، والإدمانات الأخرى.

– لم يثبت ان إضعاف العائلة، هو أمر مفيد المجتمع. بل العكس، يُضرّ بنضج الأشخاص، وبثقافة القيم الجماعيّة وبالتقدم الأخلاقي. اما اتحادات الأمر الواقع، أو الاتحاد بين أشخاص من الجنس عينه، فلا يمكن مقارنتها بكل بساطة مع الزواج. وما من اتّحاد منغلق على نقل الحياة، يمكنه أن يضمن لنا مستقبل المجتمع.

– فيما يتعلق بحقوق المرأة، ما زال الطريق طويلا في بعض البلدان. فهناك العنف المخجِل الذي يُستعمل أحيانًا ضدّ النساء. والاسوأ هو ما يتم في بعض الثقافات من تشويه الأعضاء التناسليّة للمرأة، حيث تطغى الثقافات الذكورية. ولا ننسى أيضًا ممارسة “تأجير الأرحام” أو “استغلال المرأة وتسليع الجسد الانثوي في الثقافة الحالية وفي وسائل الإعلام.

– وفيما يخص دور الرجل-الاب فهو دور مهم للغاية في حياة العائلة، بخاصة على صعيد الحماية ودعم الزوجة والأولاد. إن غياب الأب يترك تأثيره العميق في الحياة العائلية، بخاصة على صعيد تربية الأولاد وقدرتهم على الانخراط في المجتمع.

– هناك تحدٍّ آخر لإيديولوجيَّة تسمَّى الجندر “النوع” التي تنفي الفوارق والتبادل الطبيعي بين الرجل والمرأة. إنها تَعِدُ بمجتمع دون فوارق في الجنس، وتُفرغُ العائلة من الأساس الأنتروبولوجي. من جهة أخرى، هناك الخوف من إمكانية التلاعب بعمل الإنجاب، بجعله مستقلاً عن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة. فأصبحت الحياة البشرية والأبوة واقعين خاضعين لرغبات الأفراد والأزواج. علينا الحذر من الوقوع في خطيئة، ان نحل مكان الخالق.

الفصل الثّالث: النّظرُ موَجَّهٌ نحو يسوع: دعوة العائلة

يتضمن هذا الفصل الوجيز ملخصًا لتعاليم الكنيسة حول الزواج والعائلة، منطلقا من عهد الحب والامانة الذي عاشته عائلة الناصرة. إن سر الزواج ليس عقدًا اجتماعيًا أو طقسًا فارغًا. الزواج هو دعوة. دعوة إلى عيش الحب الزوجي باعتباره علامة للمحبة التي تجمع المسيح بالكنيسة. لذا، يجب أن يكون قرار الزواج وتكوين عائلة، ثمرة تمييز دعواتيّ.

إن الزواج هو «شركة عميقة في الحب والحياة الزوجية»، والنشاط الجنسي موجّه إلى الحب الزوجي بين الرجل والمرأة. وهذا الاتحاد يهدف إلى الإنجاب. ومن حق الطفل أن يولد نتيجة حبّ كهذا كونه عطيّة، وهو ثمرة فعل حب والديه الزوجي الخاص. وهكذا أشرك الخالق الرجل والمرأة في عمل خلقه، موكلا إليهما مسؤولية مستقبل البشرية من خلال نقل الحياة الإنسانية.

على العائلة ان تحمي الحياة في كل مراحلها وحتى منذ بداياتها. لذلك، تذكِّر الكنيسة العاملين في البنى الصحية بواجبهم الأخلاقي بالاعتراض الضميري. وتؤكِّد على الحق بميتة طبيعية دون التعنت في العلاج أو القتل الرحيم وترفض أيضًا بشدة حكم الإعدام.

يعد موضوع التربية، احد أكثر التحدّيًات تعقيدًا نتيجة الواقع الثقافي الحالي. ومع ذلك فأن تربية الأبناء الشاملة هي واجب خطير جدًّا، وفي الوقت نفسه “حقّ أساسي” للوالدين. إنها ليست مجرد مهمة أو عبء، ولكن أيضًا حقّ أساسيّ لا غنى عنه، وهم مدعوّون للدفاع عنه ولا ينبغي لأحد أن ينتزعه منهم.

 إن الكنيسة هي عائلة مكوّنة من عائلات، وتغتني باستمرار بحياة كل الكنائس البيتيّة. لذلك، بفعل سر الزواج، تصبح كل عائلة بوجه كامل خيرًا للكنيسة. فالكنيسة هي خير للعائلة والعائلة هي خير للكنيسة.

الفصل الرّابع: الحبّ في الزواج

يتطرق هذا الفصل الى الحب، الذي يجد خصائصه في نشيد المحبة: “المَحبَّةُ تَصبِر، المَحبَّةُ تَخدُم، ولا تَحسُدُ ولا تَتَباهى ولا تَنتَفِخُ مِنَ الكِبْرِياء، ولا تَفعَلُ ما لَيسَ بِشَريف ولا تَسْعى إِلى مَنفَعَتِها، ولا تَحنَقُ ولا تُبالي بِالسُّوء، ولا تَفرَحُ بِالظُّلْم، بل تَفرَحُ بِالحَقّ. وهي تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء” (1 قور 13: 4- 7).

أن نكون صبورين لا يعني أن ندع الآخرين يسيئون إلينا باستمرار، أو أن نحتمل الاعتداءات الجسديّة، أو أن نسمح بأن يعاملوننا كأشياء. المشكلة تنشأُ عندما نطلب من الاخر ان يكون كاملا، أو عندما نضع أنفسنا في الوسط.

الحسد هو الحزن للخير الذي يحصل عليه الآخرون وهذا يعني ان سعادة الآخرين لا تهمنا، لأنّنا نركّز على المصلحة الذّاتيّة، والحسد يقودنا إلى التركيز على الـ “أنا”. في حين أن الحبّ يُخرجنا من ذواتنا، ويقدّر نجاحات الآخرين، ولا يعتبرها كأنها تهديدّ.

لا يجب ابدًا أن ينتهي يوم دون التصالح في العائلة. يكفي لفتة صغيرة، أمر بسيط، ويعود التناغم إلى العائلة. تكفي لمسة حنان حتى بدون كلمات.

فعل تشويه صورة الآخر هو وسيلة لتعزيز صورتنا من أجل التخلص من الغيرة والحسد دون الانتباه للضرر الذي نسبّبه. فالتشهير يمكن أن يكون خطيئة عظيمة، وإهانة قوية إلى الله. بينما الحبّ يعتني بصورة الآخرين، ويحافظ على السمعة الجيدة للأعداء. إنّ الأزواج الذينَ يتحابّون، يتكلّمون بالخير الواحد عن الآخر، ويحاولُ كلٌّ منهم أن يبحث عن الجانب الجيّد في الشريك متخطّيًا نقاط الضّعف فيه أو أخطاءه.

ما من حاجة إلى مراقبة الآخر. إن الحب يثق بالآخر، ويتركه حرًّا، ويتخلى عن مراقبة كل شيء، وعن امتلاك الاخر والسيطرة عليه.

أن المحبة تتحمّل جميع المعارضات بروح إيجابية. فمواجهة الكراهية بالكراهية تعمل فقط على تقوية وجود الكراهية والشر في العالم.

مَن يحب فعلا لا يخطط لعلاقة مؤقتة، ولا يستطيع أن يفكّر بأمر عابر. كما ان الأولاد لا يريدون بأن يحب والداهم بعضهما بعضًا وحسب، إنما أن يكونا أيضًا مخلصين ودومًا ومتحدين.

من الجيد أن نعتني بفرح الحب في الزواج. فعندما يكون السعي وراء المتعة هاجسيًّا استحواذيًا، فإنه يأسر العلاقة في غاية واحدة. أما الفرح، فهو يوسّع قدرة الاستمتاع ويسمح بتذوق أمور مختلفة، حتى في مراحل الحياة حيث تخمد المتعة.

في اختيار الزواج، لا يجب أن يكون القرار متسرّعًا، كما لا يمكن تأجيله إلى أجل غير مسمى. إن الالتزام مع شخص آخر يتطلب احيانا شيئا من المجازفة والجراة.

ضمن العائلة، من الضروري استخدام ثلاثة كلمات: من فضلك، شكرًا وعذرًا. إنها ثلاث كلمات رئيسية! علينا الّا نبخل باستخدام هذه العبارات، التي تحمي العائلة وتُغذّي الحب يومًا بعد يوم.

لا نتوهم بوجود حب مثالي وكامل، فمثل هذا الحب لا يحفز على النمو. إن العائلات المثالية التي تروّجها الإعلانات الاستهلاكية المضللة ليست موجودة.

يبقى الحوار هو ألاسلوب المميز والضروري للعيش، وللتعبير عن الحب وإنضاجه في الحياة الزوجية والعائلية. إنما هذا يتطلّب تدريبًا طويلًا وشاقًا.

علينا أن نعطي الوقتَ بعضنا لبعض، ووقتًا نوعيًّا، يعتمد على الاصغاء بصبر وبانتباه حتى يعبر الشخص الآخر عن كلّ ما هو بحاجة أن يعبّر عنه.

الوحدة التي نطمح إليها ليست وحدة التطابق، بل هي “وحدة في التنوع”. ينبغي ان نتحرر من ضرورة أن نكون جميعًا متطابقين. ومن المهم عند التعبير عن شعورنا أن لا نجرح الآخر. حتى وأن انتقدنا فبدون غضب. وأن نتجنّب لغة الوعظ التي تبحث عن التهجّم على الآخر، والسخرية منه، ولومه وجرحه. إن الكثير من المناقشات غالبًا ما تكون حول أمورً صغيرة، إنما ما يفسد الامر هي طريقة الكلام أو الموقف الذي نتخذه أثناء الحوار.

إن الرغبات، والمشاعر والعواطف تحتلّ مكانة هامة في الزواج. هذا يقودنا الى الحديث عن الحياة الجنسية بين الزوجين. لقد خلق الله نفسه الجنس، الذي هو هدية رائعة لمخلوقاته. لكن الجنس ليس وسيلة إشباع أو ترفيه، بل لغة تواصل بين شخصين.

للمحافظة على العلاقة الحميمة والانتماء المتبادل مدّة أربعة، خمسة أو ستة عقود يعيشها الزوجان معا، يستلزم إعادة الاختيار المتبادل مرارًا. ربّما لم يعد أحد الأزواج منجذبًا برغبة جنسية شديدة نحو الآخر، إنّما يشعر بفرح الانتماء للآخر، وانتماء الآخر له، وإدراكه بأنه ليس وحيدًا، وبأن له “شريك” يعرف كافة تفاصيل حياته وتاريخه، ويشاركه كلّ الأمور. إنّه رفيق رحلة الحياة.

الفصل الخامس: الحب الذي يصبح مثمرًا

في هذا الفصل حدث عن ثمرة الحب والّتي تأتي كهبة من الله. وجميل أن نكون محبوبين: الأبناء هم محبوبون قبل أن يروا النور، محبوبون قبل أن يقوموا بأي شيء لاستحقاق هذا الحب. مع ذلك، فإن الكثيرَ من الأطفالِ هم مرفوضون ومهملون منذ البداية، مسروقون من طفولتهم ومن مستقبلهم. ويجرؤ البعض على القول، مبررا نفسه، بأن مجيئَهم إلى الحياةِ كان غلطة. إنه امر مُخجِل!

كل ابن هو فريد وغير قابل للتكرار. فالابن محبوب لكونه ابنًا: لا لكونه جميلا، أو لأنه يفكر كما أفكر أنا، أو لأنه يجسّد رغباتي او لأي سبب آخر، بل لمجرد كونه ابنا.

ويملك كل طفل الحق بان يحصل على الحب اللازم من أم وأب، لأن كليهما ضروريّ لنضوجه الكامل والمتناغم. ورغبة المرأة في التعلم، والعمل هو حق شرعي. ولكن، لا يمكننا ان نتجاهل حاجة الأطفال لوجود الأم، وخاصة في الأشهر الأولى من الحياة الحقيقية. إن إنقاص وجود الأم، بصفاتها الانثوية، يشكّل تهديدًا جسيمًا لعالمنا.

واي مجتمع بدونِ أمّهاتٍ هو مجتمعٌ لاإنسانيّ، لأنَّ الأمّهاتَ يعرفنَ على الدوامِ كيفَ يشهدنَ للحنانِ والتكرُّسِ والقوّةِ المعنويّةِ والممارسة الدينيّة في الصلواتِ والممارسات التقويّة الأولى التي يمكنُ لطفلٍ أنْ يتعلّمَها دونِ الأمّهاتِ.

في المقابل ظهر مفهوم ملتبس حول شخصية الاب، بسبب الرغبة بالتحرر من صورة الأبِ السيّد، حين كان التسلّطُ في الماضي سيّدَ الموقفِ في منازلِنا. ولكننا انتقلنا من تطرف إلى تطرف أخر. ويبدو أنّ مشكلةَ اليوم ليست في الحضورِ المتطفّلِ للآباءِ، بل في غيابِهم. فأحيانًا يصبّ الآباء اهتماماتِهم على أنفسِهم وعلى تحقيقِ طموحاتِهمِ الفرديّة، فيتركون الشبّانَ والصغارَ لوحدِهم.

على الاب ان يكون قريبًا من زوجته، ويشاركها في كل شيء، في الأفراح والأحزان. وأن يكون قريبًا من أبنائه وحاضرا دائمًا طيلة فترة نموهم. وكلمة حاضر لا تعني مراقب، انما أب ينتظر ابناءه يرجعون اليه عندما يخفقون او يتعثرون.

كما هو معلوم فان العديد من الأزواج ليس باستطاعتهم ان ينجبوا أطفالا. هنا ياتي التبني طريقة لتحقيق الأمومة والأبوة بطريقة كريمة جدًا. فالتبني هو فعل حب يمنح عائلة لمن حرم منها.

ثمة جانب مهم على العائلة المسيحية ان تقوم به وهو الشهادة، عندما تتحدث عن يسوع للآخرين، وتنقل الإيمان، وتظهر جمال الإنجيل. هكذا تنشر الأُخوّة، والوعي الاجتماعي، والدفاع عن الأشخاص الضعفاء، والإيمان المنير.

لا ينبغي على العائلة الصغيرة أن تعزل نفسها عن الأسرة الكبيرة، التي تضم الجدود، والاعمام والاخوال، وأبناء العموم والاخوال، وأيضًا الجيران. في تلك الأسرة الكبيرة من الممكن أن يكون هناك مَنْ يحتاج للمساعدة أو على الأقل مَن يحتاج الى رفقة، ولبعض لفتات محبة، وقد يكون هناك أوجاع كبرى تحتاج لبعض المواساة. إن النزعة الفردانية في هذه الأيام تقود، في بعض الأحيان، إلى الإنغلاق داخل عش آمن واعتبار الآخرين كخطر مقلق.

تاتي هنا الوصية الرابعة لتطلب من الابناء أن يكرموا الأب والام. فاي مجتمع لا يكرم فيه الابناء والديهم هو مجتمع بدون كرامة.. لكن هناك أيضًا جانب اخر: يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ. لا يجب التخلي أو إهمال الوالدين، ومع ذلك لكي يتم الاتحاد في الزواج يجب تركهما، حتى يصبح المنزل الجديد هو المسكن، والحماية، والاساس والمشروع، بحيث يصير الزوجان حقًا جَسَدًا وَاحِدًا.

يجب ان لا تنسى صرخة المسن، الذي يخشى الإهمال والاحتقار والتهميش. لابد من معانقة جديدة بين الشباب وكبار السن. يمكن ان يكون المسن جسرا يربط الاجيال. غالبا ما يكون هو الذي ينقل القيم الى الاحفاد. لذلك، فإن حضارة لا مكان فيها للمسنين، هي حضارة تحمل في ذاتها فيروس الموت.

كما لا يمكن أن ننسى ايضا وجود الحَمي والحَماة في هذه العائلة الموسّعة وأيضًا جميع أقارب الزوج الآخر. فلا يمكن اعتبارهم كمنافسين، وكأشخاص خطرين، وكغزاة. فطبيعة الاتحاد الزوجي تتطلب احترام تقاليدهم وعاداتهم، ومحاولة فهم لغتهم، والحد من الانتقادات، ورعايتهم.

الفصل السّادس: بعض الإمكانيات الرعوية

موضوع هذا الفصل هو التحضير للزواج الذي يميل إلى التركيز على إعداد بطاقات الدعوات والملابس والتفاصيل الكثيرة التي تستهلك الموارد الاقتصادية بقدر ما تستهلك الطاقات والفرحة. هكذا يصل المخطوبان الى حفل الزفاف منهكين. لابد من التحلي بالشجاعة واتخاذ قرار جريء في أن يكونا مختلفين، ولا يكونا فريسة للمجتمع الاستهلاكي، والمظاهر. المهم هو الحب الذي يجمع، ويحَصن ويقدس بالنعمة.

من المهم إرشاد العروسين، بأن يعيشا الاحتفال الليتورجي بعمق، وذلك من خلال مساعدتهما على فهم وعيش معنى كل حركة فيه. أحيانًا لا يدرك المخطوبان القيمة اللاهوتية والروحية للرضى الزواجي، الذي يدل على أن الحريّة والأمانة لا تتعارضان مع بعضهما البعض، لا بل تتعاضدان بشكل متبادل.

ينبغي على الازواج الشباب القيام ببعض الطقوس اليومية المشتركة، كتبادل قبلة الصباح؛ والبركة الليلية يوميًّا؛ وانتظار الشريك الآخر والترحيب به عند وصوله؛ والخروج في بعض الاحيان سويًّا؛ وتقاسم المهام المنزلية.

اما عبء الانفصال أو الطلاق فيتحملها الأبناء، الذين هم ضحايا أبرياء لهذه الأوضاع. ينبغي التفكير في الأطفال في المقام الأول ومنحهم الاهتمام أولا. على الوالدين المنفصلين ان لا يستخدموا الابن كرهينة ضد الشريك الآخر. ينبغي أن ينمو الابن وهو يسمع الأم تتكلم بطريقة جيدة عن الأب، والأب يتكلم بطريقة جيدة عن الأم.

العائلات التي تضم اشخاصا لديهم ميول جنسية مِثليّة، وهي حالات ليست سهلة بالنسبة للوالدين وللأبناء على حد سواء. وان كل شخص، بغض النظر عن ميوله الجنسية، يستحق احترام كرامته، وقبوله باحترام، بعيدا عن أي شكل من أشكال التمييز الظالم. ينبغي توفير مرافقة تقوم على الاحترام، حتى يتمكن هؤلاء من الحصول على المساعدات الضرورية لفهم مشيئة الله في حياتهم. اما  محاولات مساواة الزواج بتلك الاتحادات المرتبطة بأشخاص مِثليين، لا يوجد على الاطلاق أي نوع من التشابه، ولا حتى من بعيد، بين ارتباط المثليين وتدبير الله حول الزواج والعائلة.

تتأثر الحياة العائلية بوفاة شخص عزيز. لكن لا يزال لدينا مهمة علينا إنجازها. فإطالة أمد المعاناة لن يجدي نفعًا. إن الشخص المحبوب ليس بحاجة الى ألمنا، ولن يشعر بالامتنان إذا ما دمّرنا حياتنا، لأن هذا يعني التمسك بماض لم يعد موجودًا بدلا من تقديم الحب لهذا الشخص الذي هو الآن واقعيًّا موجود في الحياة الآخرة.

الفصل السابع: تعزيز تربية الأبناء

يركز هذا الفصل على تربية الابناء، حيث تمثل العائلة مكانًا للحماية وللمتابعة وللتوجيه. ولهذا على العائلة ان تتساءل عن مَنْ هم المكلفون بتسليتهم وملء أوقات فراغهم، وعن أولئك الذين يدخلون إلى البيوت عبر خلال الشاشات، وعن أولئك الذين يعهد إليهم بإرشادهم في الوقت الحر. على الاهل أن يوجِّهوا أطفالهم ويحصنوهم ازاء مخاطر الاعتداء أو الإدمان.

الأساس هو تنشئة الطفل، بحب كبير، من خلال عملية إنضاج حريته، وتحضيره لمسيرة نمو شاملة، وزيادة الاستقلالية الأصيلة لديه. لذا، فإن السؤال الأهم ليس أين يتواجد الابن جسديًّا، وليس مع مَن هو متواجد في هذه اللحظة، إنما أين يتواجد بالمعنى الوجودي، وأين هو مِن قناعاته، وأهدافه، ورغباته، ومشروع حياته.

من الضروري القيام بإنضاج بعض العادات لدى الاطفال، كأن يردد عبارات مثل: “من فضلك”، “بعد إذنك”، و”شكرًا” ليتمكن من ترجمة هذه العبارات بسهولة.

ينبغي تنشئة الطفل والمراهق على معرفة أن أعماله السيئة سيكون لها عواقب. وان يتعلم ان يضع نفسه مكان الاخر، والندم على المعاناة التي قد أُلحقَت به. ومن الاهمية بمكان توجيه الطفل بحزم لطلب الغفران ولإصلاح الضرر الذي ألحقه بالآخرين.

في عصرنا الحالي، حيث يسود القلق والتسارع التكنولوجي، يكون الواجب الأهم للعائلات هو تنمية القدرة على الانتظار. إن الأمر لا يتعلق بمنع الأطفال من اللعب بالأجهزة الالكترونية، إنما بإيجاد السُبل التي تولِّد فيهم القدرة على التفريق بين الأنماط المختلف، وبعدم تطبيق السرعة الرقمية على جميع مجالات الحياة.

وتعتبر العائلة المكان الأول الذي يتعلم فيه المرء كيفيِّة مواجهة شخص آخر، والاصغاء، والمشاركة، والتحمل، والاحترام، والمساعدة والتعايش.

ان تقنيات التواصل والترفيه المتطورة على نحو متزايد، احيانا، تُبعّد الأشخاص بدلا من أن تقرّبهم، كما يحدث عندما، وقت الغذاء يكون كل واحد منهم مسمرًا عيونه في هاتفه المحمول أو عندما ينام أحد الزوجين وهو ينتظر الآخر الذي يقضي ساعات برفقة الأجهزة الالكترونية. إن هذا “التوحد التكنولوجي” يعرضهم بشكل أسهل لعملية التلاعب.

وفيما يخص الحياة الجنسية، فانها تقتضي تربية إيجابية وحذرة. من الصعب التفكير في التربية الجنسية في عصر يميل إلى ابتذال وإفقار الحياة الجنسية، والتي لا يمكن فهمها إلا في سياق التنشئة على الحب، وعلى هبة الذات المتبادلة.

يجب أن تتميز تربية الأطفال بمسيرة نقل الايمان، ويجب على العائلة الاستمرار في كونها دائمًا المكان الذي فيه نتعلم أسباب جمال الايمان، والصلاة وخدمة الآخرين. التعليم المسيحي العائلي يشكِّل دعمًا كبيرًا، وطريقةً فعَّالةً لتنشئة الآباء والأمهات الجدد وتوعيتهم على رسالتهم كمبشِّرين لعائلتهم.

هكذا تتكوَّن العائلة كناشطٍ في العمل الرعوي، من خلال: التضامن مع الفقراء؛ وحماية الخليقة؛ والتضامن المعنوي والمادي مع العائلات الأخرى، ولا سيِّما الأكثر عوزًا؛ والالتزام في تعزيز الخير العام، وممارسة أعمال الرحمة الجسدية والروحية.

 

الفصل الثّامن: المرافقة، والتميّيز وقبول الضعف

في هذا الفصل دعوة الى مرافقة العائلات المتعثرة وضرورة قبولها وادماجها. إن الزواج المسيحي، انعكاس للاتحاد القائم بين المسيح وكنيسته، يتحقق بشكل كامل من خلال الاتحاد بين رجل وامرأة، عندما يهبان أنفسهما أحدهما للآخر بحب حصري، وعبر أمانة إرادية، فينتميان بعضهما لبعض حتى الموت، وينفتحان على نقل الحياة، مُحصَّنين بالسر المقدس الذي يمنحهما النعمة ليصبحا مثل كنيسة بيتية.

هذا الالتزام جعل العديد من الشباب اليوم، لا يثقون بالزواج، فيلجاون الى المساكنة مؤجلين الالتزام الزوجي الى أجل غير مسمى، بينما ينهي آخرون التزامًا قد أُبرِّمَ، وعلى الفور يقيمون التزامًا أخر. هؤلاء الذين يشكلون جزءًا من الكنيسة هم بحاجة الى عناية رعوية رحيمة ومُشجِعة.

إن اختيار الزواج المدني أو مجرَّد المساكنة البسيطة، قد لا يعود غالبًا لمعارضة للاتحاد الأسراري، بل إلى أسباب ثقافيَّة أو عرضية. في تلك الحالات، قد نجد علامات الحب والتي تعكس حب الله. فالمساكنة البسيطة غالبًا ما يتم اختيارها نتيجة للعقلية العامة السائدة، ولكن أيضًا لانتظار الوصول إلى أمان وجودي، كالعمل والراتب الثابت.

ازاء حالات الضعف أو النقص هذه لا ينبغي ابداء الاقصاء. فدرب الكنيسة لابد ان يكون درب يسوع: درب الرحمة والإدماج. الأمر يتعلق بإدماج الجميع، وبواجب مساعدة كل شخص للانضمام للجماعة الكنسية، حتى يشعر بأنه موضوع رحمة غير مُستحقة وغير مشروطة ومجانية. إننا بالاعتقاد بأن كل شيء إما أبيض أو أسود، نغلق أحيانًا طريق النعمة، طريق النمو..

فالرحمة ليست فقط عمل الله الآب، نحن ايضا مدعوون لعيش الرحمة، لأننا قد رُحمنا أولا. صحيح أنه غالبًا ما نتصرّف وكأننا مراقبون للنعمة، لا كميسرين لها. فالكنيسة ليست دائرة جمارك، إنها البيت الأبوي، حيث يتوفّر مكان لكلّ واحد مع حياته الصعبة.

الفصل التّاسع: الروحانيّة الزوجيّة والعائليّة

الفصل التاسع والاخير يتحدث عن الروحانية الزوجية المستمدة من روحانية المحبة. إذا استطاعت العائلة أن تتمحور حوّل المسيح، فهو يوحد وينير الحياة العائليّة بأسرها. فتُختبر الآلام والمصاعب بشّركة مع صليب الرب، وتسمح معانقته بتحمّل أسواء الأوقات. فتكون أيّام العائلة المرّة، اتحادًا مع المسيح المتروك، والذي يعينها على تجنّب فسخ العلاقة. بينما، تُختبرُ لحظات الفرح، والراحة أو العيد، وحتى الجنس، كمشاركة في ملء حياة قيامته.

بإمكان أفراد العائلة ان يجتمعوا متحدين بالصلاة، ويجدوا بعض الدقائق كلّ يوم مستحضرين الرب، ويخبروه بالأمور التي تقلقهم، ويصلوا من أجل احتياجات العائلة، ويشكروه على الحياة وعلى الأشياء الجيدة. وتكتمل هذه المسيرة من خلال الصلاة الجماعيّة والتي تصل إلى ذروتها في المشاركة في الإفخارستيا، خاصّة في أيام الآحاد.

في الزواج يقبل الزوجان التحدّي والتوق ليشيخا ويقضيا العمر معًا، وهكذا يعكسان أمانة لله. هذا القرار الحازم يفرضه عهد الحب الزواجي، لأنّ مَن لا يقرّر أن يحبّ إلى الأبد، من الصعب أن يستطيع أن يحبّ بصدق ولو ليوم واحد.

على كل طرف ان يدرك انه لا يمتلك الاخر، فهو ملك الله وحده. كما لا يقدر ان يجعل من الاخر ملبيا لطلباته واحتياجاته. وهنا تساعد الروحانية الزوجية في عدم السقوط في خيبة الامل من الاخر.

واخيرا، فان العائلة لا تصل الى الكمال دفعة واحدة، انما بشكل متصاعد وتدريجي، وعلى الخصوص اذا التزمت بدعوتها النابعة من الشركة التامة للثالوث، ومن الاتحاد بين المسيح وكنيسته.22

شاهد أيضاً

إصدار جديد لسيادة الحبر الجليل مار ازاد شابا

إصدار جديد لسيادة الحبر الجليل مار ازاد شابا تقديم: الاكليريكي ألفير أمجد ضمن سلسلة منشورات …