الاب ازاد شابا
تقديم
قديما كان الانسان فخورا بقوته، التي كانت تفهم قبل كل شيء على انها قوة بدنية. والويل لمن لا يمتلك هذه القوة، كان عليه الاستسلام لعنف الاخرين، ومن ثم يصبح خانعا للاقوى وعبدا تسيره ميول الاقوياء. وقد تطلب الامر قرونا طويلة لتغيير هذه العقلية وبشكل جذري، لتتراجع هذه القوة بعد القيمة الاخلاقية التي صارت في المقدمة، فتحولت ثقافة القوة البدنية الى ثقافة الدفاع عن الضعيف ضد غطرسة الاشرار وتوظيفها في خدمة مثال اسمى.
ولكن هل انتهى ذلك الانسان اليوم؟ الم يعد قابعا في داخلنا ومستعدا للانتفاض والانقضاض حالما تسنح له الفرصة؟ وفي المقابل، اليس كل واحد منا ضعيفا جسديا وضعيفا نفسيا، اليس الضعف الجسدي والنفسي جزءا من الطبيعة البشرية؟ الا نملك جميعا خلفية من الخوف والقلق والكرب؟ فماذا تعني القوة اليوم؟
ما هي فضيلة القوة؟
اذا كان هناك فضيلة مفيدة وضرورية بشكل خاص للانسان، في اوقات الازمات مثل تلك التي نمر بها اليوم، فهي القوة. انها فضيلة تضمن في صعوبات الحياة، الحزم والثبات في البحث عن الخير. وبالتالي فان القوة تدل على قدرة الانسان على الاستمرار في القتال والعيش، رغم الصعوبات والمحن والتجارب القوية التي تواجهه في الحياة. القوة هي التي تسمح لنا بالمقاومة في البحث المستمر عن العدالة في بيئتنا الفاسدة رغم عدم التزام الاخرين، وتجعلنا نحترم الاخرين حتى عندما نهان، ونمتنع عن العنف في المنزل.
القوة هي ايضا تجنب المساومات، وعدم الانجراف الى الفساد الذي يزداد انتشارا، والتبرعات غير الاخلاقية سواء كانت صغيرة او كبيرة. كما ان القوة تواجه مشاكل الحياة الاسرية بكرامة كبيرة، دون الوقوع في فخ الفتنة والخيانة والانانية. ان تكون قويا ومسؤولا في هذا المجال يعني امتلاك الشجاعة لكبح دوافعك، اي عدم التورط او الانغماس في الوقوع الخاطيء في الحب، والبقاء مخلصا لشريكك والحفاظ على تناغم منزلك.
القوة هي ايضا فضيلة رجل الاعمال الذي يحترم شركته وموظفيه، والذي لا يسمح لنفسه بان يغري بالمكر، حتى لو بدا قانونيا، لكسب المزيد على حساب موظفيه. يسري الواجب الاخلاقي على ان تكون قويا وشجاعا في كل مجال: الرياضة، حيث تعني القوة التنافس دون انتهاك القواعد عن طريق تعاطي المنشطات، الى الحياة العملية حيث يجب ان يكون الاداء مناسبا والا يكون ادنى من ذلك ابدا، وصولا الى المجالات الاخرى حتى الكنسية منها، والتي يفترض ان تكون مثالية وسامية.
ماذا يقول الكتاب المقدس عن القوة؟
ان سياق المفهوم الكتابي يختلف تماما عن نظيره اليوناني. حيث يلاحظ ان الامانة لله غالبا ما تتطلب الشجاعة، قبول المخاطر والالم، العزيمة والصبر. “فمنذ ايام يوحنا المعمدان الى اليوم، ملكوت السماوات يؤخذ بالجهاد، والمجاهدون يختطفونه” (متى11: 12). ولكن الانتباه مركز على قوة الله. من الله يتلقى الابرار القوة للمثابرة على الخير وللتغلب على الضعف الشخصي وعلى العقبات الخارجية. البار يعرف ان قوته هي مكتسبة، ومن الله يطلب العون: “انت صخرتي وحصني، ولاجل اسمك ارشدني واهدني. من الشباك التي طمروها لي اخرجني، لانك انت قوتي” (مزمور31: 3-4): “استطيع كل شيء بذاك الذي يقويني” (فيلبي4: 13). المسيح يعلمنا اننا لسنا قادرين على تحقيق الخير بدون معونته “بمعزل عني لا تستطيعون ان تعملوا شيئا” (يوحنا15: 5).
لا تقتصر القوة في الكتاب المقدس على الرجال وحدهم، فهناك ايضا بعض الشخصيات النسائية، امتزن بالشجاعة والقوة منهم: ياعيل التي قضت على قائد جيش الكنعانيين وهي تستضيفه في خيمتها منهكا، لتطعنه باحد اوتاد الخيمة في صدغه وهو نائم، لتساهم في تحرير شعبها (قضاة 4). والمراة القوية الثانية هي يهوديت، هذه المراة الجميلة الفاضلة التي تعرض سلامتها وحياتها للخطر لانقاذ مدينة بيتوليا من حصار القائد الاشوري هولوفرنيس، وتتمكن من قطع راسه مستخدمة جمالها لتدمير العدو (يهوديت). المراتان استخدمتا انوثتهما، التي يعتبرها الرجل علامة ضعف وخضوع، ليثبتن العكس.
ماذا يقول تعليم الكنيسة عن القوة؟
القوة هي الفضيلة الاخلاقية التي تؤمن، في المصاعب، الثبات والصمود في السعي الى الخير. انها تثبت العزم على مقاومة التجارب، والسيطرة على العقبات في الحياة الاخلاقية. فضيلة القوة تمكن من التغلب على الخوف، حتى الخوف من الموت، ومواجهة المحن والاضطهادات. انها تهييء للمضي حتى نكران الذات والتضحية بالحياة للدفاع عن قضية عادلة. “الرب قوتي وتسبيحي” (مز118: 14). “في العالم ستكونون في شدة، ولكن، لتطب نفوسكم، اني قد غلبت العالم” (يو16: 33).
اذا، القوة هي فضيلة الشجاعة، طاقة جسدية، ولكن قبل كل شيء هي روحية تسمح لنا بمواجهة تقلبات الحياة غير المتوقعة، الشدائد، الالم، التهديدات، مواجهة الملل والاشمئزاز من الوجود اليومي. لذلك فهي احدى الفضائل الانسانية والاخلاقية الاساسية، التي يجب ان يعيشها كل شخص شريف.
الاستشهاد
يشيد الكتاب المقدس بعهديه بالاستشهاد، بذل الحياة من اجل الشهادة للايمان والامانة لله ولكلمته، نتذكرالاخوة السبعة في المكابيين2: 7، يوحنا المعمدان، اسطيفانوس… ولكن التعليم الاهم والاني هو المعطى من موت المسيح على الصليب. لا يمكن تباعة المسيح دون السير معه نحو الصليب حسب ارادة الاب لكل واحد. هذا المسير يتطلب القوة، التغلب على الخوف من الالم والموت.
ان الاستعداد للاستشهاد لا يقتصر على بعض الناس في اوقات الاضطهاد، فهو مضمن في وعود المعمودية. لا توجد قوة مسيحية اذا لم تكن، في جذورها، على استعداد لبذل الحياة من اجل الايمان.
انها حقيقة يمكن ان تخيفنا، وان كانت لم تخطرعلى بالنا مطلقا. ومع ذلك، فانها تجعلنا ندرك حقيقة تجديد وعود المعمودية على الدوام، اذ نعد بالانتماء الى يسوع والالتزام بتعليمه، ونبذ الشر، والاستعداد لمواجهة كل ما يمكن ان يدفعنا الى جحود ايماننا او ارتكاب خطيئة كبيرة. ولهذا السبب، فان القوة المسيحية هي نعمة، عطية تملا الروح بالسلام حيث يبدا الخوف بالزوال. انها نعمة يجب ان نطلبها يوميا بتواضع، ونحن نعلم اننا لا نستطيع الحصول عليها بالاعتماد على قوانا فقط، بسبب الخطيئة، الخوف، المساومة والانانية.
في الواقع، اضافة الى حالة الاستشهاد، هناك الحياة اليومية حيث نقاوم ونسعى في فعل الخير رغم الحزن، الكابة والتعب الجسدي والنفسي. يجب ان نقاوم من اجل الخير ليس فقط عندما يكون هناك اعداء داخليون او معوقات مثل التعب والاحباط، ولكن ايضا عندما نواجه الاعداء الخارجيين، مثل سوء التفاهم، الافتراء والاستغلال، يجب ان نقاوم بسلام لان هذه هي نعمة القوة.
وبالتالي، فان القوة ضرورية للغاية اليوم وكل يوم. انها ضرورية بشكل خاص في مجتمع لين، ضعيف وخائف، يخاف فيه المرء من الصعوبة الاولى ان كانت في الدراسة او في العمل او في الحياة الزوجية… انها فضيلة يومية، فلا خير بدون قوة، ولا عدل بدون هذه القدرة على مقاومة البلى اليومي.
هل القوة صفة حصرية ببعض الاقوياء؟
ليست القوة صفة حصرية ببعض الناس، الذين ربما يقومون باعمال شجاعة او بطولية على وجه التحديد لانها ليست فضيلة بشرية فحسب، بل هي قبل كل شيء هبة من الله، احدى عطايا الروح القدس السبع. يمكن لاي شخص الحصول عليها اذا طلبها. يجدر بالذكر هنا ما يشير اليه البابا فرنسيس في احدى لقاءاته، الى كل الشهداء الذين لم يترددوا في بذل حياتهم ليظلوا اوفياء للرب وانجيله، هم لم يكونوا رجالا خارقين، لكنهم اشخاص مثلنا نالوا قوة من الروح، في لحظة الموت. ويتذكر البابا ايضا جميع الاشخاص البسطاء الذين يعيشون حياة عادية بحب غير عادي، ويقومون بايماءات بطولية يومية في صمت في صعوبات الوجود الصغيرة والكبيرة، ويدعوهم بقديسي الحياة اليومية الذين لا نعرف حتى اسماءهم وهم يعيشون بيننا في الظل. انهم اقوياء في مواصلة حياتهم مع عائلاتهم، عملهم وايمانهم. تلك هي الشهادة الصامتة لشهداء الحياة اليومية التي لا تنطوي على الموت، لكنها “حياة خاسرة” من اجل المسيح، وفقا لمنطق يسوع، منطق الهبة والتضحية ((Angelos 23 July 2013 .
اخيرا، تاريخنا الانساني يشهد للحظات حاسمة، بعيدة كانت ام قريبة، تغلب فيها الانسان على الخوف، بفضل شجاعته فثار على اعتى الدكتاتوريات، وهزم اشرس القوى التعسفية الظالمة ليساهم في نيل حريته. اليوم، مازال هناك من يسعى ويناضل في سبيل ادراك الحقوق والحريات، ويصارع المتسلطين ويقاوم الظالمين، وهذا ينسحب على كل مسؤول يخلط بين القوة من جهة والتنمر والتعجرف من جهة ثانية. وستكون القوة هي الدافع لكي يخطو الانسان الخطوة التالية الى الامام.
المصادر
- التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية
- مجلس اساقفة كنيسة المانيا، المسيحية في اخلاقياتها، نقله الى العربية كيرلس سليم بسترس، المكتبة البولسية، جونيه 1999.
- Carlo Maria Martini, Le Virtù per dare il meglio di sè, Dialogo, Milano 2010.