كوركيس راهب وشهيد من القرن 6
مقدمة
ما ان يقع اسم كوركيس على مسامعنا حتى تتبادر الى ذهننا صورة الفارس البطل وهو يطيح بتنين من فوق حصانه طاعنا اياه برمحه الطويل منقذا الفتيات والقرية من شراسة هذا الوحش. اما كوركيس الذي نحن بصدده فهو مجوسي من القرن السادس، كتب لنا قصته مار باباي الكبير (551-628)[1] الذي عاصر تلميذه كوركيس. وطبعها بيجان بعد قصة مار يهبالاها والربان صوما سنة 1895 في باريس.
حياته
ولد ميهرماكوشناسب نحو سنة 576 من اهل كشكر. وكان من العائلة الملوكية ومن أثرياء المدائن. جعله الملك هرمزد الرابع في خدمته. اهتدى الى المسيحية واقتبل المعموذية من شمعون بن جابر أسقف الحيرة في سنة 596 وأتخذ أسم كوركيس. على أثر ذلك أعتق كوركيس وأخته مريم، العبيد والجواري وتركا القصور والأملاك، وانطلقا الى نصيبين، فدخلت مريم ديرا للراهبات هو دير مار نارسوي. بينما أنكب كوركيس على الدرس في مدرسة نصيبين. ورافق الاسقف شمعون الى القسطنطينية، وأثناء رجوعه دخل كوركيس دير مار أبراهام وترهب فيه ولزم باباي الكبير، وجادل (الحنانايون) واليعاقبة.
الفتن الداخلية
على أثر الانشقاقات والنزاعات بين المسيحيين، أمر الملك كسرى الثاني[2] بتعليق أمر تنصيب جاثاليق للنساطرة. وهكذا بقوا مدة عشرين عاما، ومثلهم اليعاقبة مدة خمسة أعوام. فقلق الاساقفة النساطرة واجتمعوا ليضيعوا الفرصة على جبرائيل الطبيب[3]، الذي أراد انتخاب أحد مؤيديه أو أحد (الحنانايون)[4] وأتفقوا على ارسال مبعوث وسيط الى الملك وهو راهب اسمه كوركيس من دير مار أبراهام الكبير.
اخذ كوركيس رسالة الاساقفة ملبيا دعوتهم بسرعة ورافقه في ذلك أندراوس وميخائيل الكاهنان وكوسيشوع وطيمثاوس الشماسان وحنانيشوع. والاخير معروف لدى كسرى الثاني. أمر الملك وبعد مشاورته لجبرائيل الطبيب وزوجته شيرين، بأن يظهر الاساقفة صحة ايمانهم قبل أن ينتخبوا رئيسا لهم. وأجتمع الاساقفة وأثنوا على الملك، ثم طلبوا تعيين رئيس لهم وأرفقوها صورة الايمان، لكن الملك لم يجب بشيء وبقي الأمر على حاله.
استشهاده
واثناء مصيف الملك في ماداي ومرافقة الاساقفة له، تدور مجادلة عنيفة ومنازعة شديدة بين كوركيس وجبرائيل، مما جعل الاخير أن يحمل الملك على كوركيس، فوشى به أنه أعتمذ وترهب. فتقصى الملك وحبس كوركيس ثم أعطاه فرصة العودة الى المجوسية، لكنه لم يقبل، فأخرج الى سوق التبن وعلق على خشبة ورشق بالسهام حتى مات. وكان استشهاده في 14 كانون الثاني سنة 615م. وبقي معلقا على الصليب ثلاثة أيام. وأخذ جثته تلميذاه كوسيشوع وطيمثاوس فدفنوها في كنيسة مبنية على اسم مار سركيس في مباركتا بالقرب من المدائن.
انتشر خبر استشهاده في كل الاقطار، وجعل له تذكار في كل كنائس المدائن، وأكرمته جميع كنائس بيت أرامايي وبيت قطرايي وبيت كرماي وبلاد الهند والعرب. واجتمع كثيرون في محل صلبه وحفروا الارض بعمق قامة وأخذوا التراب تبركا.
هكذا فان قتل كوركيس أرعب الاساقفة، فبقوا دون بطريرك حتى وفاة كسرى الثاني.
خاتمة
دون شك، أن انتشار قصة كوركيس الفارس والتنين الشعبية-الاسطورية وغزو صوره وأيقوناته قد جاء بتأثير من الغرب، الى جانب ما تحمله هذه القصة من تقوى شعبية وما تنطوي عليه من اثارة وتشويق وجاذبية، والروح البطولية والشهامة التي تتسم بها شخصية البطل المنقذ.
ولكن، اذا كان حدث استشهاد كوركيس الراهب من الشرق قد انتشر في مناطقنا واشتهر في ديار الاراميين والهوزيين والقطريين وبلاد العرب والهند. أليس من المرجح أن تكون الكنائس والمزارات الكثيرة المنتشرة بيننا قد اقيمت اكراما لهذه الشخصية[5] التي نحن بصددها، خاصة وانه قد عاش ثلاثة قرون بعد الفارس الغربي من فلسطين؟
[1] ولد باباي في بيت عيناثا في مقاطعة بيت زبدى. تتلمذ لمار ابراهام الكشكري ي جبل ايزلا. يعد من اشهر لاهوتيي كنيسة المشرق العظام في القرن السادس -السابع. حيث اسهم في بلورة لاهوتها ومسيحانيتها، كما اسهم في الادب النسكي والنظم الديرية، وهو من اشهر تلاميذ حنانا. بنى ديرا كبيرا ومدرسة في قريته. خلف داديشوع في رئاسة الدير سنة 604. واختير ليقوم بدور الزائر الرسولي (ܣܥܘܪܐ ܓܘܢܝܐ) ليتفقد الابرشيات، بسبب ايقاف الانتخابات البطريركية. واختير من قبل الاساقفة ايضا بطريركا سنة 628 حين أذن لهم شيرويه بالانتخاب لكنه اعتذر وتوفى بعد ذلك عن 75 عاما، مخلفا وراءه اكثر من 80 كتابا.
[2] كان متسامحا مع المسيحيين في بداية حكمه واتخذ امرأتين مريم وشيرين، وكان لهما دور كبير وايجابي لصالح اقرانهم المسيحيين. بنى لهما الملك عدة كنائس واديرة ومنح المسيحيين الحرية لممارسة ايمانهم. لكن ما أدى الى تغير وضع كسرى في نهاية حياته واساءته الى النساطرة، هو الفتن بين المسيحيين انفسهم وشقاقاتهم، اضف الى ذلك الحروب الطويلة الدموية بينه وبين الروم جعلته يتجبر ويعبث بالمسيحيين ويضاعف الضريبة ويستولي على اموالهم. واستشهد على يده ايشوعسبران وانسطاس وكريستينا وكوركيس. اما كسرى نفسه فقد اغتيل سنة 628.
[3] جبرائيل الطبيب او السنجاري، رئيس اطباء كسرى الثاني وهو من سنجار، يعقوبي في البداية، تنسطر واصبح ألد أعدائهم.
[4] الحنانايون، نسبة الى حنانا الحديابي، وتعليمهم ان للمسيح طبيعتان واقنوم واحد.
[5] راجع بطرس حداد (الاب)، كنائس بغداد ودياراتها، بغداد 1994 ص242، ايضا لويس ساكو (الاب-البطريرك)، اباؤنا السريان، بغداد 1998 ص160.
المصادر
- أدي شير (المطران)، تاريخ كلدو واثور،ج 2، مشيكان 1993.
- البير ابونا (الاب)، تاريخ الكنيسة الشرقية، ج 1، بغداد 1985.
- التاريخ السعردي، الجزء الثاني، اعده للنشر وحققه ادي شير، ط2، معهد التراث الكردي، السليمانية 2010.
- توما المرج، الرؤساء، ط 2، بغداد 1990.
- عمرو بن متي، المجدل، مشيكان 1995.
- كيفاركيس جيديات، برو اورينتي، فيينا 1994.
- لويس ساكو (الاب-البطريرك)، باباي الكبير، نجم المشرق (العدد 8) 1996.