فضيلة الاعتدال
تقديم
في عالم متسارع الوتيرة، ومجتمع استهلاكي، لن يكون للاعتدال اي اثارة للاهتمام او تحفيزا او مكانة. وليس من السهل ممارسة الاعتدال في هذا العصر المعقد. لكن التخلي عن الاعتدال يجعلنا نتساءل، كيف ولماذا اصبح البعض اسير القمار، غرف الالعاب، المخدرات، المال والاغراءات الاخرى ليتحول هذا الى نمط حياة واسلوب عيش؟ الا يكون الاعتدال هنا ترياقا ضد هذه الاغراءات التي تنبع من الداخل؟
ما هي فضيلة الاعتدال؟
الاعتدال او القناعة، تعد الاقل قبولا والاكثر استخفافا بين الفضائل الرئيسة الاربعة في مجتمع اليوم. فللوهلة الاولى، يبدو وكان هذه الفضيلة تقف عائقا امام تحقيق الرغبات. لكنها ليست الا هي فضيلة اساسية حاسمة في التمييز بين الخير والشر، وفي ضبط النفس. وتمثل ايضا بادرة شجاعة للعيش بشكل افضل. انها الفضيلة التي تساعدنا على فعل كل شيء باعتدال. كما وتعيننا في السيطرة على رغباتنا الجامحة. في هذا السياق قال القديس يوحنا بولس الثاني، خلال لقاء مع الشباب في الفاتيكان:
“الرجل المعتدل هو سيد نفسه، من لا تغلب فيه الاهواء على العقل والارادة وعلى القلب. لذلك نحن نفهم كيف ان فضيلة الاعتدال لا غنى عنها للانسان ليكون رجلا كاملا، والشاب ليكون شابا حقيقيا. المشهد الحزين والمهين لمدمني لمدمني الكحول او المخدرات يجعلنا نفهم بوضوح كيف ان “كونك انسان” يعني، قبل كل شيء، احترام كرامة المرء، اي الاسترشاد بفضيلة الاعتدال. السيطرة على الذات، العواطف والشهوانية لا تعني على الاطلاق ان تصبح غير حساس او غير مبال، الاعتدال الذي نتحدث عنه هو فضيلة مسيحية، نتعلمها من تعاليم ومثال يسوع، وليس من ما يسمى بالاخلاق الرواقية”.
ماذا يقول الكتاب المقدس عن الاعتدال؟
ثمة اشارات الى الاعتدال في الكتاب المقدس، الذي يؤكد ضرورة السعي للوصول الى مقياس قويم. فالعهد القديم يمتدح الاعتدال مرارا، نقرا في كتاب سيراخ: “لا تتبع ميولك ورغائبك وفي شهواتك لا تسلك” (5: 2). و “لا تكن تابعا لشهواتك بل عاص اهواءك” (18: 30) و “الرجل الحكيم يمتليء بركة ويغبطه كل من يراه. حياة الرجل ايام معدودة، اما ايام اسرائيل فلا عدد لها. الحكيم يرث ثقة شعبه، واسمه يحيا الى الابد. يا بني، جرب نفسك في حياتك، وانظر ما يضرها، وامنعها عنه. فانه ليس كل شيء ينفع كل احد، ولا كل نفس ترضى بكل امر” (37: 27-31). وفي رسالة بطرس الثانية يقول: “ولهذا ابذلوا جهدكم لتضيفوا الفضيلة الى ايمانكم، والمعرفة الى فضيلتكم .. فاذا كانت فيكم هذه الفضائل وكانت وافرة، جعلتكم نافعين مثمرين في معرفة ربنا يسوع المسيح” (1: 5-8). ونجد في الرسالة الى تيطس التاكيد التالي: “فنعمة الله، ينبوع الخلاص لجميع البشر، ظهرت لتعلمنا ان نمتنع عن الكفر وشهوات هذه الدنيا لنعيش بتعقل وصلاح وتقوى في العالم الحاضر، منتظرين اليوم المبارك الذي نرجوه، يوم ظهور مجد الهنا العظيم ومخلصنا يسوع المسيح” (2: 11-13). ويبين بولس ان السيطرة على النفس لا يمكن ان تتم الا عن طريق التمرين الموجه نحو هدف “اما تعلمون ان العدائين في الميدان يعدون كلهم، وان واحدا ينال الجائزة؟ فاعدوا كذلك حتى تفوزوا…” (1 كو 9: 24-26). ويذهب الانجيل الى ما هو اكثر عمقا وجذرية فيتكلم على مشورة الفقر التي تندرج في سياق فضيلة القناعة. وهي تدعى في العهد الجديد “تعقلا او صحوا”. يجب ان “نعيش في هذا الدهر الحاضر برزانة وعدل وتقوى” (تي 2: 12).
لذلك تحثنا كلمة الله، في العهدين القديم والجديد على حد سواء، على الاعتدال وتؤكد قيمته في مرضاة الله وفعل الخير بين الناس. لذلك فان الاعتدال هو التشبه بالمسيح. فهو نموذج للتوازن وضبط النفس: كل حياته منظمة بشكل جيد وهو معتدل في حماسته وحيويته وابداعه ومحبته لجميع المخلوقات. يوجد فيه ذلك الانسجام الذي يربط بين الرغبات والغرائز والعواطف.
ماذا يقول تعليم الكنيسة عن فضيلة القناعة؟
الاعتدال هو الفضيلة الاخلاقية التي تكبح جماح شهوة الملذات وتمنح الاتزان في استعمال الخيرات المخلوقة. وهي تؤمن قوة سيطرة الارادة على الغرائز، وتحفظ الرغائب في حدود الاستقامة. ان الرجل القنوع يوجه نحو الخير شهواته الحسية، ويحافظ على اعتدال مقدس، ولا يتتبع هواء ليسير في شهوات قلبه”.
يقول اوغسطينوس: “الحياة الصالحة ليست سوى محبة الله بكل القلب وبكل الفعل. ونحتفظ له بمحبة كاملة (بالقناعة) لا يزعزعها سوء (وهذا ما يتعلق بالقوة) ولا تخضع الا له (وهذا هو العدل) وتسهر للتمييز بين كل الاشياء حتى لا يفاجئها مكر او كذب (وهذه هي الفطنة)”. (اخلاق الكنيسة الكاثوليكية 1، 25، 46).
اين يمارس الاعتدال؟
ليس من السهل ممارسة هذه الفضيلة في هذه الاوقات المعقدة. فهي تحد مع الذات، لاثبات القدرة على ترويض الغرائز. اجد من المناسب الاشارة الى مارتيني اذ يتناول المجالات التي فيها يمكن ممارسة الاعتدال وعيشه.
اولا: الاعتدال هو الاتزان في الاكل والشرب. في هذه الحالة يتعلق الاعتدال بالامتناع عن الاكل وحتى الصيام وبالاعتناء بالصحة، وبالنظام الغذائي اي الحمية، عندما توظف للحفاظ على صحة الجسم وابقائه في حالة جيدة. والاعتدال يعارض الافراط في تناول الكحول والمخدرات. يؤكد بولس الرسول على الاعتدال في الطعام والشراب ويوصي بتجنب السكر والعربدة (رومة 14: 20-21).
ثانيا: الاعتدال كضابط للغرائز الجنسية. يحثنا الرسول بولس على العيش منزهين عن الخطيئة (رومة 6: 12). وهذا الخطاب هو عن العفة، والحفاظ على الحواس، وعلى العينين والخيال والايماءات. وهذا يسري على الاستخدام الجيد للتلفاز والقراءة والصحف وما الى ذلك. نقيض هذا الاعتدال هو الاضطرابات الجنسية التي تؤدي الى الانحرافات وما تسببه من جرائم بعد ذلك.
ثالثا: الاعتدال كميزان في استخدام السلع والخيرات المادية، وخاصة المال. يقول بولس الرسول: “اما الذين يطلبون الغنى فانهم يقعون في التجربة والفخ والكثير من الشهوات العمية المشؤومة التي تغرق الناس في الدمار والهلاك، لان حب المال اصل كل شر، وقد استسلم اليه بعض الناس فضلوا عن الايمان واصابوا انفسهم باوجاع كثيرة” (1 طيمثاوس 6: 9-10). انه موضوع البخل والفساد الاداري والسياسي الناشيء من جشع الاشخاص والمجموعات. فدور الاعتدال يكمن حصرا في قطع جذور الجشع الذي يخلق الظلم. هنا يتعلق الاعتدال بحياة الترف والبذخ والانفاق المفرط على الملبس والمنزل، والمسكن الثاني والثالث، ومن اجل اللهو في انواعه المختلفة. فالاعتدال يمكنه ان يوازن بين الامور، بما يتناسب وحالة كل فرد، وبالتالي ان يتحاشى المبالغة والهدر والتباهي.
رابعا: الاعتدال يحدد الوسيلة في السعي الى مراتب الشرف والنجاح. يقول يوحنا: “يا بني، لا يضلنكم احد، من عمل البر كان بارا كما انه هو بار” (الرسالة الاولى 3: 7). بهذا المعنى، يرتبط الاعتدال بالتواضع والبساطة والسلوك بوداعة. وهذا ما يتعارض مع الغطرسة والتعالي وحب السلطة والقوة.
خامسا: الاعتدال عند الغضب. يساعدنا بل يعلمنا كيف نسيطر على اعصابنا، انفعالاتنا، نوبات غضبنا، انقلاب مزاجنا ورغباتنا الانتقامية، حتى ضمن عائلتنا وصداقاتنا. فالاعتدال هو الفضيلة التي تحافظ على التوازن القوي في مواجهة الشر، او اثناء اعطاء التوجيهات، او خلال توجيه اللوم او القصاص. من ناحية اخرى، ان لم يتم السيطرة على الغرائز، فهناك خطر الدخول في مخاصمات ونزاعات حتى في العائلة.
خاتمة
يمكننا القول، ان الاعتدال هو الفضيلة التي تجعلنا نتواصل بالطريقة الصحيحة في ثلاثة اتجاهات: مع انفسنا بالابتعاد عن وضع الانا في المركز والافراط في تقييم الذات، ومع الاخرين بابداء الاحترام الواجب لكل شخص بشري وتقدير كرامته الممنوحة له من الله والتعامل معه بصدق ووضوح، ومع الاشياء حين نبتعد عن الجشع والافراط في الامتلاك ونتقاسم المواهب والخيرات مع من هم في حاجة اكثر.
المصادر
- التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، المكتبة البولسية، جونيه 1999.
- مجلس اساقفة كنيسة المانيا، المسيحية في اخلاقياتها، نقله الى العربية كيرلس سليم بسترس، المكتبة البولسية، جونيه 1999.
- Carlo Maria Martini, Le Virtù per dare il meglio di sè, Dialogo, Milano 2010.