قصة كرخ بيث سلوخ (كركوك)
وشهدائها الى القرن الخامس
مقدمة
تحظى سير القديسين والشهداء باهتمام واسع وتحتل حيزا كبيرا لدى المؤمنين والكنيسة. لذا فالتعامل معها لا يخلو من مخاطر. لكنها في الوقت نفسه قابلة للدراسة والتمحيص، ولا بد من اخضاعها للتحليل العلمي والنقد الموضوعي. نتناول هنا قصة كرخ بيث سلوخ وشهدائها، ونحاول تحليل بعض عناصرها التاريخية، للوصول الى مغزاها.
كرخ سلوخ
كانت كرخ سلوخ (كركوك الحالية) قاعدة بيث كرماي، وانتشرت فيها المسيحية منذ اوائلها بوساطة مار ماري، مقابل ثمن باهض من الارواح الطاهرة التي ازهقت والدماء الزكية التي اريقت في هذه المقاطعة، وخصوصا في النصف الاول من القرن الخامس الميلادي، ابان حكم يزجرد الثاني (438-457م). وان احد اسباب شدة هذه الاضطهادات، كان انتماء بعض الحكام والذوات الى المسيحية، امثال: طهمزكرد حاكم كرخ سلوخ، واذور هرمزجرد حاكم بلاشبار على نهر ديالى. فكان لابد للملك ان ينتقم من هؤلاء بخاصة ومن المسيحيين بعامة.
موجز القصة[1]
خلف يزجرد الثاني[2] والده بهرام الخامس على عرش المملكة الفارسية. وكان مسالما في بداية حكمه، وخصوصا في سني حكمه السبع الاولى. لكنه في الثامنة اثار اضطهادا على المسيحيين. وقتل ابنته التي كانت زوجته، وقضى على كثير من عظماء مملكته، وطرد المسيحيين من جيشه، ظنا منه انهم سبب هزائمه من الاعداء. فكتب الى طهمزكرد منرازبد الذي كان في نصيبين، ان ياخذ معه اذرفراجد مسؤول منطقة أرزن، وسورين حاكم حدياب وبيث كرماي، وان يذهبوا معا الى كرخ سلوخ ليضغطوا على المسيحيين في تلك المنطقة، ويحملوهم على جحود المسيح والسجود للشمس والنار والماء، والا فمصيرهم العذاب والموت بالسيف.
لقد كتب يوحنان الاسقف الى بطريرك انطاكيا يلتمس منه الصلاة لاجله ولاجل ابرشيته المنكوبة. ثم القي القبض على يوحنان. واذ كان في طريقه الى السجن راى الحاكم طهمزكرد، فقال له بصوت عال: “السلام عليك ايها الحاكم والمحكوم، السلام عليك ايها المؤدب والمؤدب، السلام عليك ايها المجوسي والمعترف والشهيد، ألا زد يا طهمزكرد، والف لك فرقة لكي تلاقي معها وجه الختن الذي دعانا الى ملكوته، فارى انك مثل شمعون الصفا ستصلب منكس الراس في سبيل المسيح”. وكان بين المسجونين اشراف من الكرخ، منهم اسحق بن هرمزجرد، واردشير بن ارزانيا وابراهيم وسبعة اخرون، منهم من ثبت ومنهم من جحد. اما اسحق فتنبأ هو ايضا على غرار يوحنان الاسقف وقال لطهمزكرد: “يا طهمزكرد انك مزمع ان تنال شهادة حسنة في سبيل الرب، فتكون عوض الذئب حملا، وتقدم جسدك ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله”.
اما طهمزكرد فاصدر امرا باعتقال المسيحيين من جميع المناطق وبضمنهم الاساقفة والكهنة … وجاء هؤلاء وهم يرتلون ويسبحون وعددهم نحو 133000 شخصا، اضافة الى سكان الكرخ المسجونين الذين كان عددهم نحو 20000 وصعد طهمزكرد الى الموضع الذي يدعى (بيث تيتا) اي موضع التين، حيث قتل الشهداء في عهد الملك شابور، وشرع جنوده في تعذيبهم بمختلف الانواع، فمنهم من بتروا رجليه، ومنهم من قلعوا عينيه، ومنهم من قطعوا لسانه، وغيرهم سلخوا جلد راسه، واخرون نشروا، ثم احرقوا جميعا.
وكانت ثمة امراة من عشيرة زادوق اسمها شيرين تخبز في البيت. وما ان سمعت باستشهاد هؤلاء حتى تركت خبزها وعجينها، واخذت ولديها الى موضع (حورا) فامسكت بلجام حصان طهمزكرد وطلبت اليه الا يحرمها هذا النصيب. ودهش الحاكم منها ولكنه لم يستطع ثنيها عن عزمها، فامر بقطع راسها وراس ابنها الاكبر، ثم الاصغر. عندها فتح الرب عيني طهمزكرد، فراى سلما ارتفعت نحو السماء، وعليها يصعد جميع من قتلهم، وفي نهاية السم يقف الرب وهو يضع الاكاليل على هامات الشهداء. اذ ذاك حدث انقلاب جذري في نفس الحاكم، فصرخ باعلى صوته: (انني مسيحي). وهكذا تمت النبوءات التي قيلت عنه، واخذ يبكي ويبتهل الى المسيح كي يغفر له.
وحالما علم الملك بأمر الحاكم، اوصى بتعذيبه وصلبه منكس الراس، وكان ذلك في يوم الاثنين 25 ايلول 446. وكان الطوباوي مارون (يوحنا الثالث) اسقف الكرخ، قد بنى ديرا في موضع استشهاد اؤلئك القديسين، وأقيم لهم تذكار مدة ثلاثة ايام في كل سنة.
مخطط القصة
هذه السير او القصص ليست تاريخية بالحرف، لكنها كذلك في بعض جوانبها، وهي ليست حوادث واقعة في عمومها، وان لم تكن من قبيل الاوهام والخيالات. انما هي كتابات انسانية، واثار نادرة لاسلافنا، علينا المحافظة عليها كما هي، كارث زاخر يحمل في طياته رموزا وعلامات وتعابير تعود الى القرون الاولى للمسيحية. وما علينا الا العودة الى المحيط والثقافة والاداب في تلك الحقبة، كي نتمكن من فك تلك الرموز، وادراك تلك الاساليب الادبية المتبعة في مثل هذه الكتابات للخلوص الى الهدف والمعنى الذي يجب ان نستشفه في ما بين السطور، وكل ما من شانه ان يبعث فينا الروح، ويذكي فينا المحبة، ويزيد ايماننا، ويثبت مسلكنا، حتى ان صادفتنا الالام والاضطهادات، وان كان الموت مصيرنا. ولا عجب في ذلك، فالمسيح نفسه قد ذاق من تلك الكاس، ومن قبله كثيرون، ومن بعده مسيحيون اخرون.
نحن بصدد قصة كتبت ضمن سلسلة قصص الاضطهادات، ولها اسلوب ومخطط واحد: فالملك او الحاكم يسند اليه دور الشر، يتدخل بنفسه ويأمر بالحاق العذابات وشن الاضطهادات. وفي المقابل نجد الشهداء يتميزون بمزايا رفيعة من الشجاعة والحكمة والاقدام، لايهابون الالم والموت.وتصور الالام والعذابات بكثير من القسوة والبشاعة لتقييم الشهادة. وتوضع على السنتهم حوارات قوية مسهبة تارة، وطورا مقتضبة فيها استشهادات من الانجيل وصلوات. فيظهر امامنا الشهداء قديسين حقيقيين، ونماذج يحتذى بها، برغم رهبة المقابل وبطشه وتعسفه. وثمة دور لذخائر الشهداء المؤمنين في هذه القصص، اذ تدفن اجسادهم باكرام كبير، ويحفظ منها جزء للتبرك.
العناصر التاريخية
في قصتنا عناصر تاريخية عديدة، اعتمدها الكاتب ومن حولها سبك احداثا ممتعة ومشوقة:
طهمزكرد الحاكم المضطهد والمسيحي الشهيد
بعد تلك الحملات البربرية التي قادها طهمزكرد على ربوات المسيحيين في كرخ سلوخ، واعدامهم سنة 446 وعلى راسهم الاساقفة والاعيان، تاثر كثيرا بهذا بهذا الاندفاع، وبدا يفكر في أمر المقتولين، وهم يقدمون انفسهم للموت بفرح. انئذ اهتدى وصاح: انا ايضا مسيحي. ولم يثنه عن ذلك وعد الملك ووعيده، فمات معلقا على الصليب في 25 ايلول سنة 446. وتقرر في مجمع بابوي الجاثليق 457-484 اقامة عيد سنوي لهؤلاء الشهداء مدة ثلاثة ايام، من الجمعة الى الاحد ضمن الاسبوع السادس من الرسل، وذلك طلب اساقفة بيث كرماي وحدياب.
شهداء بيث كرماي
جاء في كلدو واثور[3] نقلا عن تاريخ كرخ سلوخ، ان طهمزكرد واذرفراجرد وداستبراهام دخلوا مدينة كرخ سلوخ في 15 تموز فنكلوا بالاكابر والشرفاء واودعوهم السجن، وفي العشرين من اب امر طهمزكرد بالقبض على يوحنان المطران مع عشرة من اعيان المدينة، وزجوهم في السجن، ومعهم عشرون الفا من المسيحيين. وجاء الجنود من بلاد اخرى بعدد لا يحصى من المسيحيين ومنهم مطران اربيل مع كهنته وشمامسته، واساقفة كل من نوهدرا ومعلثا وشهرقرد وماحوزا داريون وحربات كلال ودارا مع اكليروسهم، وقيل ان عددهم بلغ 133000 شخص.
وفي 24 اب صعد طهمزكرد محلا يدعى (بيث تيتا)[4] فمثل امامه مار يوحنا مع الكهنة واشراف المدينة فعذبهم. ثم اخرج اجنود الافا مؤلفة من المؤمنين الى الموضع نفسه، وقضوا عليهم جميعا.
الاثر: دير وكنيسة مار طهمزكرد
قام مارون او يوحنا الثالث مطران كرخ سلوخ، ببناء دير على تل بين عدة تلال شرقي المدينة. ثم بنى كنيسة تدعى بالتركية (قرمزى كليسا) اي الكنيسة الحمراء، نسبة الى الدماء الزكية التي سقت تراب المنطقة. وكان مسيحيو المدينة عبر الاجيال يقصدون المكان تبركا بعظام الشهداء في يوم عيد الشهيد طهمزكرد في 25 ايلول.
وكانت هذه الكنيسة قد استخدمت كمخزن لعتاد الجيوش العثمانية في الحرب العظمى الاولى، ولكنهم دمروها بانفسهم مع محتواها عند انسحابهم منها سنة 1918، لئلا يستفيد العدو منها. واعيد بناؤها مجددا في عهد المطران اسطيفان جبري عام 1923 مع كثير من التغيير في معالمها الاصلية.
خاتمة وتاوين
القصة فن من الفنون الادبية، تخاطب عواطف الناس، وتطرق مشاعرهم واحاسيسهم، وتثير حميتهم وحماسهم، وهي لا تقتصر على شد القارىء واقناعه، بل ايضا تنطوي على فكرة او تعليم ما، مؤطرا باحداث جذابة ومشوقة.
وقصصنا هذه دينية، تقوية وشعبية، تحمل في طياتها اثر انامل كتابها وثقافتهم ومحيطهم … والاخيرون ليسوا الا شهود ايمان، ينقلون لنا كفاح الشهداء ونضالهم وبسالتهم ازاء اصناف الالام والعذابات والموت، وذلك باسلوب ادبي خاص لا يخلو من لمساتهم ورتوشهم وزخارفهم.
والمحصلة: ادراك كنه الرسالة التي يريد هؤلاء الكتاب ايصالها الى الاجيال المتعاقبة، ومفادها: الموقف الثابت الذي لا يقبل القسمة على اثنين، ايمان راسخ متماسك كالصخرة، لا مساومة فيه، حتى ان اقتضى ذلك الشهادة بالدم، وهو ما يعد شرفا عظيما قلما يدركه المرء.
المصادر
- ادي شير، كلدو واثور، ج2، مشيكان 1993.
- البير ابونا، تاريخ الكنيسة الشرقية، ج1، بغداد 1985.
- روفائيل ميناس، (بين النهرين) عدد 9 سنة 1979، ص311-316.
- يوسف حبي، كنيسة المشرق، ج1، بغداد 1989.
[1] تفاصيل القصة في كتاب (شهداء المشرق) للاب البير ابونا، بغداد 1985، ص263-272.
[2] وليس يزجرد الاول (399-420) كما ظن الاب البير في المصدر السابق، الا انه عاد فصحح ذلك في (تاريخ الكنيسة الشرقية)، بغداد 1985، ص82.
[3] ص124.
[4] كان شهداء قد تكللوا ايام الملك شابور الثاني قبل الاضطهاد الاربعيني (318-339) في بيث كرماي، ومنهم الاساقفة مار معنا ومار شابور ومار اسحق اضافة الى ست راهبات تقلا وداناق وطاطون وماما وامزكيا وانا، وقتلن خارج المدينة في محل يدعى (حورا) اي منظر. ونبتت هناك شجرة تين، غير ان المانويين الذين عاثوا في المدينة فسادا، قطعوا الشجرة حسدا. ومنذئذ عرف المكان باسم (بيث تيتا)، ويقال له بالتركية (انجير اغاجي) اي شجرة التين.