الفضائل الالهية
فضيلة الايمان
تمهيد
الفضائل الالهية ثلاث: الايمان والرجاء والمحبة، وهي تعطي جميع الفضائل الاخلاقية صورتها وتحييها. وقد وردت هذه الفضائل في رسالة القديس بولس الى اهل تسالونيقي، وفي العهد الجديد وفي كتابات اباء الكنيسة وفي التعاليم المسيحية. وتستند هذه الفضائل مباشرة الى الله، كما انها تهيئ المسيحيين لان يحيوا في علاقة مع الثالوث الاقدس، فمصدرها وعلتها وموضوعها الله الواحد والثالوث معروفا بالايمان ومرجوا ومحبوبا لذاته.
ماهو الايمان؟
في التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية:[1] الايمان هو الفضيلة الالهية التي بها نعتقد وجود الله، وكل ما كلمنا به واوحى، وتعرضه الكنيسة المقدسة علينا لنعتقده، لان الله هو الحق ذاته. بالايمان “يسلم الانسان امره كله لله”. لذلك يسعى المؤمن الى معرفة ارادة الله والى فعلها، البار بالايمان يحيا” (روم 1: 17). والايمان الحي “يعمل بالمحبة” (غل5 :6). والايمان يعني الانسان كله، وهو جواب عن كلمة الله ومحبته، وبه يوجه الانسان ذاته الى الله ويجيب بذلك الله الذي ياتي اليه.
مفهوم الايمان في الكتاب المقدس
لا يرى الكتاب المقدس الايمان على انه الاعتقاد المحض بامر ما ولا مجرد اقتناع العقل به. تستعمل اللغة العبرية عدة تعابير لما يعنيه الايمان. ويستعمل بنوع خاص “امن”، ومنه اتت لفظة امين، بمعنى الثبات على شيء والتمسك به، وغير ذلك من المعاني. ومن ثم فالايمان يعني اولا اعتماد الانسان على الله. وهذا يعطيه امانا وثقة اساسية بالله، الذي يعرف بانه يجد فيه الطمانينة.[2] هذا الايمان نجده متجسدا في امثلة كثيرة لشخصيات كتابية يمكن ان نعتبرها، وهي تجيب على نداء الرب: فهذا ابراهيم ابو المؤمنين يجيب قائلا: “هاءنذا”، عندما ناداه الرب لامتحانه (تك 22: 1)، موسى الذي اجاب: “هاءنذا” عندما ناداه الرب في العليقة المضطربة (خر3: 4). والايمان يكمن في موقف صموئيل الذي قال: “هاءنذا”، عندما ناداه الرب في رابع الليل (1صم 3: 4-10). ويتجلى هذا الايمان ايضا في موقف مريم التي قالت: “هاءنذا خادمة الرب، فليكن لي بحسب قولك” (لو1: 38). [3]هكذا فان الايمان هو الفضيلة اللاهوتية التي بها نؤمن بالله ونقول له: “نعم”، ونسلم اليه انفسنا بصورة كاملة، والى كل ما قاله وكشفه لنا، والى ما تعرض علينا الكنيسة بان نؤمن به لانه هو الحق بعينه. [4]ولا يختلف مفهوم الايمان في العهدين القديم والجديد، لكنه يتجدد في العهد الجديد، بسبب التحول الواضح في تاريخ الخلاص؛ فالايمان هو اعطاء جواب لله الذي اظهر نفسه من خلال ابنه يسوع المسيح، من ثم فان الايمان في العهد الجديد يعني قبول شخص يسوع المسيح الذي بواسطته يحقق الله الخلاص.
الايمان والاخلاق
الايمان يعني الانسان كله. في الايمان يتوجه الانسان نحو الله. الايمان يعني الحياة على نحو يتلاءم ومحبة الله للانسان. لذلك فالايمان هو ايضا تتميم للاخلاق. التصرف الاخلاقي السيء هو عمل غير منصف بالنسبة الى ما يطلبه منا الله الصالح. تصرفنا هو صالح من الوجهة الاخلاقية بقدر ما يهدف الى الصلاح وبذلك الى من هو صالح، اعني الى الله (لو18: 19). يتكلم بولس على “عمل الايمان” (1تس 1:3)، ويربط الايمان بمحبة القريب. هذا هو اساس وحدة السلوك الاخلاقي كله. ما ينجزه الانسان او يفعله، ان لم يكن فيه المحبة، ليس بشيء (1 كو 13: 2). “اذ لا قوة، في المسيح يسوع، للختان ولا للقلف، بل للايمان العامل بالمحبة” (غل 5: 6 و 1 كو13:1 و تي 1: 13 و تي 3: 15 …)
الايمان بالاصنام
وسط مغريات عالم اليوم، من السهولة ان يصنع الانسان لنفسه اصناما يتعلق بها، بمعنى ان يقيم اشياء او امورا مكان الله، وهذه الاصنام كثيرة جدا، قد تكون، السلطة، المال، اللذة، حاجة ما… ومن يسقط في حبالها يقاوم الله وارادته. لذلك فان الايمان يقتضي حسن استعمال الاشياء المخلوقة؛ ايماننا يقودنا الى استعمال كل ما ليس الله بقدر ما يقربنا ذلك من الله، والى التجرد منه بقدر ما يميل بنا ذلك عن الله (متى 5: 29-30، 16: 24، 19: 23-24).
اعتقادات الايمان واعتقادات الاخلاق هي في علاقة دائمة مع ما يحيط بها. ان جماعة المؤمنين توفر للفرد المؤمن مساعدة كبرى. فكما ان المحبة تكون على يقين بقدر ما تقبل وتجد صدى لها، كذلك الايمان يجد عمق قوامه عندما يندرج في جماعة تعيش يموجبه وتشهد له. في هذا الايمان على الفرد ان يقيم الدليل في مختلف اوضاع الحياة، وخصوصا عندما يلقى المقاومة او تعترضه صعوبات في الايمان. هنا معرفة الايمان مهمة، لكنها ليست كافية وحدها. الايمان يجب ان يكون ايمانا حيا. علينا ان نعترف به ولا يجوز لنا ان ننكره. “من اعترف بي قدام الناس اعترف انا ايضا به قدام ابي الذي في السماوات، ومن انكرني قدام الناس فاني انكره قدام ابي الذي في السماوات” (متى10: 32-33). مثل هذا الايمان هو من ثم مرتبط دوما بمحبة الله والناس وبالرجاء.[5]
الايمان مسيرة حياة
الايمان ليس امرا يملكه الانسان مرة على نحو جامد. انما الايمان مسيرة على طريق قد تكون شاقة، وتنطوي على البحث والتلمس والارتباك والشك والظلمة. الايمان هو اكثر من قدرة العقل على الادراك والارادة على الانجاز، انه استسلام واثق لله، فيه نطلب باستمرار: “اني اؤمن يارب، فأعن قلة ايماني” (مر9: 24).
ان تلميذ المسيح ملزم لا بان يحافظ على الايمان ويحيا به فقط، وانما ايضا بان يعترف به، ويشهد له باطمئنان، وينشره: على الجميع ان يكونوا مستعدين للاعتراف بالمسيح امام الناس، وان يتبعوه على درب الصليب، وسط الاضطهادات التي لا تفارق الكنيسة ابدا. خدمة الانسان والشهادة له لابد منهما للخلاص.
بايجاز، فان الايمان هو الانتماء الى شخص يسوع المائت والقائم من بين الاموات، والى رسالته والى جسده السري: كنيسته واسرارها، ومن ثم نشر هذا الايمان كل بحسب قدرته (دستور عقائدي في الكنيسة-12). والمؤمن هو الانسان الذي ينفتح بكامله نحو الله، وهو الذي يبني علاقة شخصية مع الله الذي يجب ان يكون مركز حياته وليس احدا غيره.
[1] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، المكتبة البولسية، جونيه، لبنان 1999، 1814.
[2] المسيحية في اخلاقياتها، سلسلة الفكر المسيحي بين الامس واليوم-19، ترجمة المطران كيرلس سليم بسترس، المكتبة البولسية، بيروت 1999، ص538.
[3] كارلو ماريا مرتيني اليسوعي، الفضائل، ترجمة الاب سليم دكاش اليسوعي، دار المشرق، بيروت 2011، ص68.
[4] التعليم المسيحي، 1814.
[5] المسيحية في اخلاقياتها، ص540.