قصة استشهاد مار ايث آلاها النوهدري

قصة استشهاد مار ايث آلاها النوهدري

تمهيد

قصة استشهاد ايث آلاها، هي من قصص الشهداء ألذين قضوا خلال الاضطهادات الفارسية. وأعتى هذه الاضطهادات كانت تلك التي قادها شابور الثاني مدة أربعين عاما، ضد المسيحيين العزل في المنطقة التي كانت تحت سيطرة الامبراطورية الفارسية آنذاك. ولكي نفهم مغزى القصة ورسالة كاتبها، علينا أن نحلل أسلوبها الأدبي والمنهج الذي تعتمده.

موجز القصة[1]

ايث آلاها[2] هو رفيق كل من عقبشما ويوسف في الشهادة. عقبشما كان أسقفا على حانيثا واسم قريته بقعا وكان شيخا وقورا فاضلا وقد ناهز الثمانين من العمر. ويوسف كان كاهنا لقرية بيت كاتوبا وقد قارب السبعين. وأصل ايث آلاها الشماس من بيت نوهدرا وقد ناهز الستين من العمر. فقبضوا عليهم وأتوا بهم مكبلين بالسلاسل الى أربيل وقاسوا عذابات شديدة بأمر آذركوركشيد الحاكم فجلد عقبشما ويوسف جلدا شديدا بقضبان مشوكة.

وأما ايث آلاها فشدوا يديه تحت ركبتيه وأتوا بخشبة غليظة أدخلوها بين فخذيه تمر على ذراعيه ووقف عليها اثنا عشر رجلا يمنة ويسرة حتى فككوا أضلاعه. وبعد حبسهم لثلاث سنين أذيق عقبشما عذابات أخرى وسحب جثمانه خارج المدينة ووضعت حراسة عليه، الا أنها سرقت بعد مرور ثلاثة أيام بهمة ابنة ملك أرمنية كانت أسيرة هناك. استشهد عقبشما في 10 تشرين الأول 378.

وفيما يخص الكاهن يوسف والشماس ايث آلاها فقد عاد بهما آذركوركشيد الى أربيل ليجبر المسيحيين على رجمهما. وكانت يزداندوخت ما تزال تكرم الشهداء وتعولهم من أموالها فاحتالت واستدعتهما ليلا الى دارها وضمدت جراحهما وقبلت أياديهما المنحلة وبقيا في الحبس ستة أشهر الى أن استبدل آذركوركشيد بحاكم آخر أكثر شراسة هو زرادوشت، الذي حمل معه أوامر مشددة باجبار المسيحيين على رجم رؤسائهم فقبض على جمع كبير منهم وجبرهم على رجم يوسف. وبالنسبة الى ايث آلاها فقد ساقه شابور طمشابور المجوسي الى بيت نوهدرا الى قرية دستكرد، فأجبر رئيس البلد وأشراف المسيحيين رجالا ونساء على رجمه. ونبت في محل استشهاده شجرة آس أصبحت ينبوع البركات لكنها قلعت فيما بعد حسدا، فبنى المسيحيون هناك ديرا.

العناصر التاريخية

في القصة عناصر تاريخية مهمة، اعتمد عليها الكاتب فنسج حول تلك العناصر أحداثا مشوقة، وفق ما شهده أو تبينه أو مما كانت تتناقله الناس، أهم هذه العناصر:

  • تأريخية الحدث: يأتي ذكر قصة مار ايث آلاها مع رفيقيه؛ عقبشما أسقف حانيثا ويوسف كاهن بيت كاتوبا، ضمن سلسلة شهداء بيت كرماي وحدياب. يعود تأريخ استشهادهم الى نهاية الاضطهاد الاربعيني (339-379م) والذي قاده شابور الثاني.
  • شابور الثاني 309-379: هو أول الملوك الساسانيين ألذين اضطهدوا المسيحيين. اتسمت فترة حكمه بالعنف والدم، وان كان مسالما ابان حكمه. فقد عرف بذي الأكتاف نظرا لما اشتهر به من طريقة بشعة كان ينتهجها في التعذيب بخلع الأكتاف. وحجته في ذلك أن المسيحيين موالون للرومان.
  • المكان والأثر: في القصة اشارات الى دير، شيده المؤمنون على اسم الشهيد ثم أسسوا فيه مدرسة أيضا. وقد أقيم هذا الدير نحو سنة 379، أي بعد موت شابور الثاني وانتهاء الاضطهاد الأربعيني بفترة قصيرة. وردت الاشارة الى هذا الدير في القرن السابع، فيما كان آخر ذكر له سنة 1607. أما المدرسة فكانت قد ازدهرت في القرن السابع، عندما انضم خمسون من طلابها الى دير الربان هرمزد كمبتدئين. يعتقد البعض أن سهدونا أيضا كان أحد طلاب المدرسة خلال القرن السابع[3].

مخطط قصص الشهداء

القصة فن من الفنون الادبية، تعتمد منهجية خاصة. وقصص الشهداء تنتهج مخططا عاما وأسلوبا واحدا[4]. فهي دائما ما تصور لنا الملك او الحاكم شخصا شريرا شرسا مضطهدا يلحق عذابات بشعة بالشهداء. بينما يقف الشهداء شامخين متشبثين بايمانهم لا يهابون العذابات ولا الموت. وتنسب اليهم حوارات مليئة باستشهادات كتابية وصلوات وتنبض بالحب للاله الحق، وتستخف بكل سلطان آخر سوى سلطان الله. ويمتاز الشهداء بجرأة كبيرة واقدام لافت أمام الحكام والسلاطين، مواجهين خطر الموت بشجاعة فائقة، مستمدين هذه القوة من الرجاء الثابت بالله.

قصص الشهداء هذه هي قصص دينية تقوية وشعبية، ممزوجة برتوش ولمسات كتابها لتلهب حماسة المؤمنين، للاقتداء بأسلافهم في ايمانهم وكفاحهم عند الشدائد وثباتهم وقت الألم وصمودهم عند الاضطهاد.

اكرام الشهداء

نظرا لأهمية موضوع الشهيد والشهادة في كنيستنا التي هي بحق كنيسة الشهداء، لما قدمته من اعداد غفيرة من الشهداء. فنجد منذ البداية اهتمام المؤمنين بأخبار الشهداء وسيرهم وقصص استشهادهم وتقديم الاكرام الواجب لهم ولذكراهم العطرة، وحفظ ذخائرهم في أماكن خاصة. وفي الكنيسة كانوا يتلون صلوات الشهداء عندها. فيما يدفنون جثمانه الطاهر باكرام، ويقدسون محل الاستشهاد. وفي قصتنا هنا تقوم يزداندوخت الشريفة الاربيلية المعروفة بهذا الدور في اكرام جثامين الشهداء. وشهيدنا ايث آلاها بقي في ذاكرة المؤمنين وخاصة في منطقة نوهدرا وتناقل الكتاب خبره وسيرته وسجل بعضهم آيات نسبت الى شفاعته، ومنها شهادات لمسلمين يقرون فيها بآيات جرت معهم بشفاعة الشهيد ايث آلاها. ومازال الناس اليوم من مختلف الاديان والمذاهب يؤومون الكنيسة (الكاتدرائية) التي تحمل أسم ايث آلاها والتي أقيمت محل الكنيسة القديمة للصلاة وأداء الاكرام الواجب له.

بطل القصة ايث الاها

ايث آلاها[5] شماس من بيت نوهدرا- دهوك، من القرن الرابع. عاش في عهد شابور، ووشي به لديه. استشهد بعد أن نال حصته من الأسر والعذابات والتي كانت تشتد بسبب كلامه الحاد ولسانه الطلق والاهانات كان يوجهها للحكام، وهذا ما يستشف من خلال اجاباته وحواراته: “اني لمتعجب منك كم أنك غبي لا تتبين … انك بهيمة لا عقل لها … أيها الدنس الحقير … “.

مع ذلك، فقد أتم شهيدنا شوطه وأدى رسالته، فشهد شهادة حسنة كللها بدمه، وتلك هي قمة الشهادة. وبذلك اراد أن يعطي مثالا جيدا للأجيال المتعاقبة اذ قال للحاكم المستجوب: “حسنا تنبأت رغما عنك. أجل سنكون عبرة حسنة لجميع الصادقين أمثالنا، واننا سنخلف انتصارا جليلا للأجيال القادمة وهو جهدنا العظيم وثباتنا حتى النصر والاكليل الذي لا يعتريه فساد، المضفور والمحفوظ لشيخوختنا التي تكتسب شبابا في مجد ربنا في اليوم الأخير”[6].

خاتمة

انها لثروة عظيمة تلك التي تركها لنا أجدادنا. اذ اهتموا منذ البدء بتدوين ونقل هذه الروايات والقصص التي يرقى بعضها الى زمن الأحداث نفسها. ليس علينأ أن نهضمها كما هي، لأنها ليست تأريخا. لكنها تبنى على أسس وحقائق تأريخية، يزيدها الكاتب جمالا وتشويقا من خلال سبك الأحداث بأسلوب فني رائع يشد القارىء، ليوصل رسالته الدينية، ألا وهي: مواصلة رسالة المسيح التي حملها أيضا أتباعه الأوائل رغم المعاناة والاضطهاد. والشهادة لانتمائهم الى المسيح والتي قد تكون مفتوحة فتصل الى الشهادة بالدم.

ونحن اليوم، اذ نقرأ هذه القصص ندرك انتماءنا الى أؤلئك الابطال وأننا امتداد لهم، واننا مدعوون الى الاقتداء بهم في ثبات ايمانهم ونقل كلمة الانجيل في عالم متغير باستمرار، رغم المعوقات والمعارضة.

[1] أدي شير، تاريخ كلدو وآثور، المجلد 2، مشيكن 1993، ص 83-84؛ ألبير أبونا سير الشهداء والقديسين، الجزء 1، دار نجم المشرق (39)، ط 3، 2015، ص 319-336.

[2] اسمه تأكيد على وجود الله.

[3] ألبير أبونا، ديارات العراق، بغداد 2006، ص 64-66.

[4] الاب يوسف حبي، كنيسة المشرق ج1، بغداد 1989، ص 376.

[5]  ثمة أشخاص آخرين يحملون هذا الاسم منهم؛ ايث الاها الذي عاش قرب قرية لالش؛ وشخص آخر ايضا يدعى ايث الاها وكان كاهنا للاصنام في أربيل … (أدي شير، المصدر السابق ص 82-83؛ ألبير أبونا، المصدر السابق ص 64؛ جان موريس فييه، القديسون السريان، نصوص ودراسات بيروتية 83، بيروت 2005، ص 58-59).

[6]  ألبير أبونا، سير شهداء المشرق، ج 1، منشورات دار”نجم المشرق” 39، ط 3، بغداد 2015، ص 329.

شاهد أيضاً

إصدار جديد لسيادة الحبر الجليل مار ازاد شابا

إصدار جديد لسيادة الحبر الجليل مار ازاد شابا تقديم: الاكليريكي ألفير أمجد ضمن سلسلة منشورات …