الأحد الثالث من الصوم
نوح صورة ليسوع المسيح في بداية خليقة جديدة
ما يزال قلب الانسان رغم نيله الخلاص مائلا الى الخطيئة، ومع ذلك فان الله يعلن أنه صبور وطويل الأناة، ورحمته تتعارض والعقاب الانتقامي الصرف وتفتح الطريق للاهتداء.
تك 7/ 1-20
ففي القراءة الأولى نستمع الى رواية الطوفان، التي تتناول تنامي فساد البشرية بعد أن اعتبر الانسان أنه يشبه الله (3/ 5)، فتكاثر العنف وتواصل الشر بحيث أسف (ندم) الله أنه خلق البشر، بينما الناس ما ندموا. وبما أن الخطيئة تحمل الموت، كادت البشرية تفنى في “طوفان” جلبته عليها عقابا على خطاياها، لولا رحمة الله التي وجدت بارا في شخص نوح، الذي معه انتهت مرحلة قديمة وبدأت مرحلة جديدة. بداية جديدة بأبنائه الثلاثة الذين اجتمعت فيهم البشرية المعروفة آنذاك.
ألا نسمع ونشاهد بين الحين والآخر أخبارا عن كوارث طبيعية: زلازل، براكين، فيضانات، أعاصير … دون أن نعلم أسبابها. ويكون لهذه الكوارث وقع كبير وتخلف دمارا هائلا، كما لو أنها تريد القضاء على كل شيء. فمن الطبيعي أن نجد هذا الاختبار في أساطير من تقاليد عديدة منها تقليد بلاد ما بين النهرين. واذ يتبنى الكتاب المقدس رواية الطوفان بما فيها من بعد اسطوري، فأن ذلك لا يفقدها قيمتها، بل يضيف اليها ميزة الأختبار البشري، وما يجابهه الانسان من قوى كونية هائلة.
في هذا النص والحديث عن الطوفان، تنقلب ذكرى تلك الكارثة التي جرت في أقدم العصور الى مثال حكم الله على بشرية خاطئة. ولذلك أن جميع النكبات والكوارث التي يقاومها الانسان في مجابهته طبيعة معادية لها معنى واحد: وقوع التاريخ البشري تحت حكم الله، بسبب خطيئة العالم. فالبشرية اذن، ليست تحت حكم القدر، رغم خطاياها، انما الكلمة الأخيرة تكون لله الذي يريد أن يشملها برحمته ويمنحها الخلاص. وأما النكبات والمحن الخاضعة لدينونة الله، فهي مرحلة مؤقتة من مراحلها لا أكثر.
فالخلاصة الهامة في نهاية المطاف، والتي يريد الكاتب أن يصل اليها بعد أن يقوم بتشذيب ومحو كل طابع وثني عن رواية الطوفان مفادها: أن الخلاص الذي ناله نوح يؤكد رغبة الله في استمرار التاريخ، رغم وجود الخطيئة. وهذا الخلاص ما هو الا صورة تسبق الخلاص الذي سيأتي به المسيح.
رومية 7/ 14-25
يعود بولس الى خبرته، التي هي خبرة كل انسان. فالجميع اختبروا الشريعة والخطيئة، كما اختبروا مأساة الوضع البشري الممزق بين الخير والشر، بين الأهواء وعطية الذات لله. فنرى الانسان مجبرا على فعل ما تأمره به الخطيئة. ولا يعود حرا في أن يفعل ما يطلبه منه عقله وضميره. نحن هنا أمام الانسان الخاطىء الذي لم يتبرر بعد بالايمان. ولكن هذا التنازع في قلب الانسان لا يتخلى عنه يوم اهتدائه، بل يرافقه حتى الموت.
يقول بولس انه لا يفهم ما يفعله، لانه في بعض الأحيان توجد في نفسه دوافع تتأثر بشكل واضح بالميل الى الشر ولا يستطيع السيطرة عليها. فتجربة بولس هي تجربتنا أيضا: كم مرة وعدنا بالبقاء هادئين وصابرين، وألا نتفوه بكلمة واحدة، وبدلا من ذلك فقدنا صبرنا وتحدثنا بعد ذلك مباشرة؟ كم مرة نرغب في السيطرة تماما على بعض الدوافع الحسية، وبدلا من ذلك نجد أنفسنا متورطين ولو جزئيا، على الرغم من أن ارادتنا كانت معاكسة؟ فالميل الى الشر هو عبء يمكننا أن نشعر به في بعض الأحيان. ولهذا يقول بولس: “الخير الذي أريده لا أعمله، والشر الذي لا أريده أعمله” (19-20).
من المهم جدا أن نفهم هنا، أن بولس لا ينكر أو يقلل من ذنب الانسان ولا من مسؤوليته، بل يريد أن يوضح حالة البؤس التي يجد نفسه فيها وهو تحت عبودية الخطيئة، والسبب الذي من أجله يفعل ما لا يوافق عليه ويعتبره شرا. نعم، الارادة موجودة، لكن يبقى العمل. هكذا يدل بولس على الخير الذي في الانسان رغم الخطيئة المسيطرة، فيرتدي الانسان الجديد في يسوع المسيح، الانسان الذي بدله الروح القدس.
متى 20/ 20-28
يقدم لنا جدال التلاميذ على المركز الأول. نجد طلب الأم الحصول على المركز الأول لولديها. لم يقتصر الأمر على عدم فهم التلاميذ لرسالة يسوع، بل استمروا في تحقيق طموحاتهم الشخصية. وعندما أصر يسوع على الخدمة وبذل الذات، استمروا في طلب الأماكن الأولى في الملكوت. وصلت أم يعقوب ويوحنا الى يسوع، ومعها ولداها، لم يفهم الاثنان اقتراح يسوع، بل كانا مهتمين فقط بمصالحهما الخاصة. علامة على حقيقة أن الأيديولوجية السائدة في ذلك الوقت قد تغلغلت بعمق في عقلية التلاميذ. وعلى الرغم من العيش مع يسوع لعدة سنوات، الا أنهم لم يجددوا طريقتهم في رؤية الاشياء. لقد نظروا الى يسوع بنفس النظرة المعتادة، من الماضي. وأرادوا مكافأة لتباعتهم يسوع، وكانت نفس التوترات موجودة في المجتمعات في زمن متى وما زالت موجودة في مجتمعاتنا اليوم.
رد يسوع يأتي حازما: “أنتما لا تعرفان ما تطلبان!” ويسألهما اذا كانا قادرين على شرب الكأس التي يشربها هو، واذا كانا على استعداد لتلقي المعمودية التي ينالها. انها كأس الألم، معمودية الدم. يريد يسوع أن يعرف ما اذا كانا، بدلا من البحث عن أماكن الشرف، يوافقان على بذل حياتهما حتى الموت. يجيب الاثنان: “نستطيع!” يبدو الأمر وكأنه اجابة لم تأت من الداخل، لأنهما بعد أيام قليلة، تركا يسوع وحيدا في ساعة الألم (مرقس 14/ 15). ليس لديهما الكثير من الوعي، ولا يدركان واقع الأمر. أما أماكن الشرف والكرامة في الملكوت بجانب يسوع فالذي يمنحها هو الآب. ما يجب أن يقدمه يسوع هو الكأس والمعمودية والألم والصليب.
يتحدث يسوع عن ممارسة السلطة. في ذلك الوقت لم يكن من هم في السلطة مسؤولين أمام الشعب. لقد تصرفوا كما أرادوا. سيطرت الامبراطورية الرومانية على العالم وأبقته خاضعا بقوة السلاح، وبالتالي تمكنت من خلال الجزية والضرائب والرسوم من تركيز ثروات الناس في أيدي قلة من الناس في روما. وقد اتسم المجتمع بالممارسة القمعية والمسيئة للسلطة. كان لدى يسوع اقتراح آخر، فيقول: “لا يكون هكذا فيكم، بل من أراد أن يكون فيكم كبيرا فليكن لكم خادما، ومن أراد أن يكون فيكم أولا يكون لكم عبدا”. تعليم ضد الامتياز والتنافس. يريد تغيير النظام ويصر على أن الخدمة هي العلاج للطموح الشخصي.
وفي نهاية النص، يحدد يسوع رسالته وحياته: “لم آت لأخدم، بل لأخدم”. لقد جاء ليبذل نفسه فداء عن كثيرين. انه المسيح الخادم، الذي أعلنه النبي اشعيا. وتعلم من أمه التي قالت: “ها أنا أمة الرب”. اقتراح جديد تماما للمجتمع في ذلك الوقت.
الصوم يستحق أن نفضح “الطموحات” التي تعشعش في دواخلنا، والتي تلقى تقديرا عاليا بين الناس! لنحاول أن نصحح مفاهيمنا الخاطئة، ونكرز بجوهر الطريق المسيحي، طريق الخدمة وبذل الذات في اثر يسوع الذي يعلمنا، أن الوسيلة الوحيدة للوصول الى العظمة هي الخدمة. فكل خدمة تلتقي وتنبع من ذاك الذي جاء ليخدم لا ليخدم.