الاحد الرابع من الصوم
التجدد بروح الله
حين يستخدم الانسان الخليقة في خدمة أنانيته ومطامعه في السيطرة والتسلط خلافا لمشيئة الله، تئن الخليقة ويئن الانسان. أمام هذه العدوانية البشرية في السعي الى تحقيق المطامع، يقف الله الخالق والمعتني لينبه الانسان الى أنه لا يستطيع عمل شيء بدونه، وبدون محبته يمكن لحياته أن تنهار.
التكوين 11/ 1-9
وهو ما نجده هنا في خبر برج بابل، الذي ينسب الى كبرياء الانسان تشتت العائلة البشرية في مجموعات عديدة تتكلم لغات مختلفة. فبعد الطوفان يعود الانسان الى كبريائه وطموحه ويحتاط لأمنه ببناء برج بابل لئلا يباد من جديد. يحسب الله ذلك عدم ثقة به وتحديا له، وهو بالتاكيد دليل غياب الله عن حياة الانسان. ولما غاب الله عن فكر البشر وحياتهم اختلفوا بينهم واستحال التعاون، فانقسموا وافترقوا. وما تشتت الشعوب الا عقابا على خطيئة جماعية، فيها تحد لله كما هو الحال في خطيئة الأبوين الأولين (التكوين 3). ولن تتحد البشرية الا في المسيح المخلص: معجزة اللغات في العنصرة (أعمال الرسل 2/ 5-12)، واجتماع الأمم في السماء (رؤيا 7/ 9-10). كما ان تقليد العهد القديم ينظر الى خرائب الأبراج العالية التي كانت تشيد كمقر للآلهة، في ما بين النهرين، كرمز للجبل المقدس. يقال ان البنائين كانوا يبحثون في تشييدها عن سبيل الى ملاقاة الههم.
بابل (باب ايل أو باب الله)، كان لها دور في تدبير الله، لكنه لا يتعارض مع كونها مثالا صارخا لمدينة الشر. فهي دائما رمز لقوة الشر، وجدت ملذاتها في قوتها الذاتية، وانتصبت في مواجهة الله بكبرياء وصلف وتكاثرت خطاياها فصارت معبد النفاق ومدينة الباطل. أما برجها فيرمز الى الوثنية البابلية، ويتخذ أيضا رمزا الى كبرياء الانسان. وبذلك تطال دينونة الله مدينة الشر هذه فتسقط وتدمر ولا يبقى فيها حجر على حجر (اشعيا 24/ 7-18، 25/ 1-5). وعلى الرغم من ذلك ستظل حية في ذاكرة اليهود، كنموذج للمدينة الوثنية المحكوم عليها بالخراب.
في مقابل ذلك، نرى طريقة الله في تأديب البشر على وثنيتهم القائمة على الكبرياء. فالله يحول مشاريع البشر، ولكنه لا يسحقهم، لأنه يعرف أن الشر لا يقضى عليه بهلاك الانسان. ويبقى ذلك الاب الذي ينتظر عودة ابنائه ويتوبوا. وتلك كانت رغبته لمدينة بابل أيضا أن تعود وتتحد بشعب الله، مثل نينوى.
رومة 8/ 12-21
في هذا السياق، يناشدنا بولس هنا الى اماتة الأجساد بأعمال الروح، أي عدم الاهتمام بالأكل واللبس والزينة، وهو ما يتطلب آلاما وتضحيات. كما ويدعونا الى التجدد والتحول بروح الله الذي يهبه يسوع، لكي نستطيع أن نطيع مشيئة الله، التي لم تعد اكراها يفرض علينا من الخارج، بل صارت الشريعة الباطنية لحياتنا الجديدة.
هكذا نتجرأ فننادي الله أبا، وهي الكلمة التي يستعملها الطفل عندما ينادي أباه: بابا. هذه الكلمة التي لا نجد لها وجودا في مفردات الدين اليهودي. وهي تعبر عما بين يسوع وأبيه من مودة بنوية ملؤها الانس والحنان. يساعدنا سر التبني ويمكننا من الاشتراك في تلك المودة البنوية. والتبني قد حصلنا عليه منذ الآن. فما ننتظره هو كمال نتائجه: افتداء أجسادنا. خلاصنا أمر قد حصلنا عليه كالتبني، لكننا ننتظر تحقيقه التام. وأبناء الله هم ورثة الله، والميراث في العهد القديم يدل على امتلاك أرض الميعاد، ولا يفترض موت أحد. أما في العهد الجديد، فان أرض الميعاد تصبح مجمل الخيرات الالهية: الملكوت والحياة الأبدية. والآب يهب جميع خيراته لابنه القائم من الموت، وعن يده للمؤمنين. علينا أن نهتم بالحق والبر لأننا أبناء الله وشركاء المسيح.
فعمل الروح يخلق خطا جديدا من العلاقات بين الله والانسان، وبين الناس بعضهم مع بعض. فالذين يدفعهم الروح يتجرأون فيقولون أبا، أيها الآب، ويصيرون اخوة وأبناء لآب واحد. فتكتشف البشرية نظرة الى الخلاص الحقيقي وحياة جديدة في حرية أبناء الله، ورجاء يدرك الخليقة التي تئن في آلام الولادة. يواصل بولس المقابلة بين حياة وحياة. هناك حياة تتركز على الذات، على الأنا بما فيه من ميل الى الشر، وحياة تتركز على الله. لا شك في أن الله هو أبو الجميع، لأنه خلقهم، ويصل حبه ورحمته الى الجميع. ولكن يبقى على الانسان أن يقبل نداء الله بالايمان بابنه الوحيد، وأن يقبل أن يقاد من الروح، روح الله الذي يحرك أعماق قلوبنا.
متّى 21/ 23- 46
يلح متى على الدوام على ضرورة اتمام مشيئة الله الآب. وهذا ما نستشفه هنا في مثل الكرامين القتلة. موضوع المثل هو “العمل لا الكلام”. وهذه فكرة راسخة في التقوى اليهودية. ومن هذه الناحية لا فرق بين آراء الرؤساء اليهود وبين الانجيل: “ليس الذين يقولون يارب يارب… لكن الذين يعملون بمشيئة أبي السماوي”.
قبل هذا المثل هناك مثل الابنين، وجواب الرؤساء على السؤال من من الابنين عمل بمشيئة الاب، صحيح اذن: المهم ليس الكلام والمظاهر بل المهم هو الطاعة الفعلية. ولكن يتجلى من التطبيق الذي يعطيه يسوع للمثل ما أبعد الرؤساء عن الطاعة العملية، رغم جوابهم الصحيح. الطاعة في مفهومهم تعني: حفظ دقيق لفرائض الناموس وما حوله من تقاليد. أما في مفهوم يسوع فالطاعة تعني: تلبية الدعوة الى التوبة وتغيير اتجاه الحياة كما كرز بهما يوحنا (ويسوع بعده). يجد الرؤساء في حفظهم للناموس حجة ليرفضوا هذه الدعوة. حفظهم الدقيق يؤدي بهم الى تبرير الذات والى العمى. تدينهم يؤدي بهم الى عدم الايمان. باسم الله يرفضون الله. حفظ الناموس صار تصلبا. وعدم الايمان هذا باهظ لما نقارنه بموقف الخاطئين (لا أريد): هم تابوا على كرازة يوحنا. حتى هذه الاعجوبة (ان الخطاة يتوبون!) لم تأت بالرؤساء الى التوبة. بتبرير ذاتهم العنيد يدينون أنفسهم: وملكوت الله ينتقل الى غيرهم (نفس النتيجة كما في مثل الكرامين).
ما من أحد، ولا المسيحي أيضا، يقدر أن يعتبر خلاصه ملكا مكتسبا بصورة مؤمنة نهائيا بحيث لا يعود يحتاج الى سماع دعوة الانجيل الى التوبة. المثل يبين أن التصرف مثل “الحفاظ على التقاليد” و”التطبيق الدقيق للفرائض الدينية”، ليس ضمانا للايمان الصحيح. حيث ينقص الاستعداد المتواضع لسماع كلمة الانجيل الناقدة، يعرض الانسان لتبريرات الذات والعمى. وحتى يسوع كان عاجزا أمام هذا الموقف!
مثل الكرم في أشعيا 5/ 1-7 وهو مثل دينونة على خيانة شعب الله. هنا المثل يدين رؤساء الشعب المسؤولين (الكرامين). نجد في ارسال العبيد تدرجا متصاعدا: أرسل عبده، ثم أرسل أيضا عبيدا آخرين أكثر عددا من الأولين، وآخر الأمر أرسل اليهم ابنه. الابن هو يسوع. طرحوه خارج الكرم وقتلوه (يسوع مقتول خارج أورشليم على الجلجلة-عبر 13/ 11-12). لكن قلب المثل واقع في الانتقال من صيغة ماضي المثل الى مستقبل السؤال: “ماذا سيفعل رب الكرم …؟” يجعل متى الرؤساء يجيبون على السؤال بأنفسهم، فيستعمل يسوع جوابهم ليدينهم. الأمة التي تصنع ثمارا هم الوثنيون. ولكن متى يلح في كل انجيله، على ضرورة العمل بمشيئة الله. لذا نجد يسوع يفضح مكر الكهنة ويبين سوءهم بأمثال. ويلوموهم لانهم لا يؤمنون به ولا يتوبون، بل يحاولون التخلص منه بينما هو المسيح المنتظر. ويؤكد أن لا خلاص في ايمان تقليدي موروث وحده، انما الخلاص في ايمان شخصي معلن وملتزم.
اليوم، ينبغي أن تقرأ هذه الكلمة في كنيسته ليس من رؤساء اليهود وحدهم، بل من قبلنا نحن الكرامين في الوقت الحاضر أيضا. علينا أن نثمر، والا ينزع الملكوت منا ويعطى لآخرين. في مسيرتنا نحو الفصح، نحن مدعوون الى التزام مشيئة الله والانتقال من الشريعة والحرف الى الروح، ونعيش بحسب هذا الروح متحررين من الخطيئة، وصائرين أبناء الآب ووارثين مع المسيح.