الاحد الخامس من الصوم
تجلي الرحمة الالهية
لفتة دقيقة من عناية الله الذي لا يبقى غير مبالٍ بخليقته وبصلواتها، بل يسعى مسخرا كل الظروف لكي يقودها إلى الخلاص.
تكوين 16/ 1-16
الرحمة الالهية نلمسها في كل الكتاب المقدس، وهي ترافق الجميع وتشمل الجميع. ولكي نفهم ما جرى في هذه القصة التي نحن بصددها، علينا العودة الى التاريخ، الى شريعة حمورابي ملك بابل في القرن الثالث عشر (ق. م). والتي تحتوي على مادتين 144 و 146 وبموجبهما يجب أن يعزى الأولاد الى رئيس العشيرة، الذي في حالة عقم الزوجة الرسمية، يمكنه اللجوء الى زوجات حرمها الأخريات لانجاب ولد. وأضيف أيضا: اذا تزوج رجل من أمراة حرة وأعطت زوجها خادمة وأنجب منها أولادا، فاذا كانت هذه الخادمة فيما بعد تماثل (تساوي) سيدتها لأنها أنجبت أولادا الى العالم، فان سيدتها ستضع عليها علامة خادمة.
في قرائتنا للفصل 16 من سفر التكوين نكتشف أن فقرات هذا القانون القديم تنظم أيضا حياة عشيرة ابراهيم. في قصة الآباء غالبا ما تكون هناك اشارة واضحة الى تعدد الزوجات، حتى في ظل وجود زوجة أساسية، وهي ساراي بالنسبة لابراهيم. دفعها عقمها الى تقديم خادمتها هاجر لزوجها، لانجاب ابن سيكون رسميا ابنا لابراهيم وساراي. هاجر فخورة بتفوقها كامرأة حامل وخصبة على سارة العقيمة، تظهر بسلوكها أن “سيدتها لم تعد تعني لها شيئا”. وهذا ما عبرت عنه شريعة حمورابي بعبارة “تماثل (تساوي) سيدتها”. ثم تطبق ساراي انتقاما مشروعا-حسب ذلك القانون- بالتضييق على هاجر واذلالها، دون أن يتمكن ابراهيم من الاعتراض: “هذه خادمتك في يدك، فاصنعي بها ما يحسن في عينيك”. ثم أساءت ساراي معاملة هاجر كثيرا وأذلتها حتى أضطرت الى الهرب منها.
تنتقل عدسة الراوي بعد ذلك الى الصحراء حيث تلد هاجر اسماعيل (الله يسمع). وتستمر القصة في الفصل 21: سارة أيضا تنجب ولدا هو اسحاق، وتبدأ أولى الخلافات والنكات والمجادلات بين الأخير والفتى اسماعيل. تطلب سارة من ابراهيم طرد هاجر واسماعيل من العشيرة. عند هذه النقطة يتم تقديم مشهد مؤلم. تسحب المرأة ابنها معها الى الصحراء، عطشانة ويائسة، ولا تعرف كيف تعيش. انه التمثيل الحي لما يحدث أمام أعيننا في (صحراء) البحر المتوسط حيث تحمل العديد من الأمهات أطفالهن المنهكين، الذين غالبا ما يموتون، على صدورهن. انها مأساة اللاجئين الذين يعبرون هذا المد البحري المرعب من أفريقيا الى أوربا بحثا عن الخلاص. لكن في قصة هاجر نهاية سعيدة، رحمة الله تعمل لانقاذ هذه العائلة، سمع الله تلك الصرخة وأظهر لهاجر بئرا حيث تستطيع هي وابنها أن يرويا عطشهما.
ان هذه القصة العائلية، التي تبدو خادشة الى حد ما لمشاعرنا، هي في الواقع تعبير حقيقي عن (تجسد) كلمة الله. يدخل الرب في عادات وتقاليد وسلوكيات بشرية مشكوك فيها، مرتبطة بثقافة مجتمع قديم. انه يسير جنبا الى جنب مع هؤلاء الأشخاص البطيئين، المتصلبين وقساة القلوب، ليقودهم الى مستوى أسمى من الأخلاق، مقدما لهم خلاصه أيضا. الكتاب المقدس، حتى فيما يتعلق بالعائلة، هو كتاب صبر الله ورحمته.
رومة 12/ 1-21
الرحمة هي أيضا موضوع هذا النص. هنا يبدأ قسم الرسالة الأخلاقي الارشادي الذي فيه يحث بولس المؤمنين على حياة مطبوعة بالرحمة والخدمة. فنعبر فيها عن ايماننا بالطاعة لله. ان رحمة الله التي ورد ذكرها في مطلع الرسالة ولا سيما في الفصول 9-11 تقتضي من المؤمن موقفا يقدم فيه نفسه ويجب أن يظهر في حياة الجماعات المسيحية. لذلك علينا أن نقرب، مع المسيح، أجسادنا ذبيحة. “أجسادكم هيكل الروح القدس، وأنتم لستم لأنفسكم. فمجدوا الله اذا بأجسادكم” (1 قور6/ 19-20). والجسد لا يعني مميزا عن النفس، انما الانسان بجملته، وهو يعمل في جسده وبه، بهذا الجسد الذي هو المكان اللازم لوجوده وعمله وصلته بالله وبالناس وبالعالم. نحن بأجسادنا أعضاء المسيح (1 قور6/ 15). يدعونا بولس الى عدم التشبه بهذه الدنيا او هذا العالم. واقتبس المسيحيون من اليهود وجود مرحلتين كبيرتين في تاريخ العالم: “الدهر الحاضر”، حيث يسود الشر علنا، و”الدهر الآتي”، حيث يظهر الله ملكه. ولكن الدهر الآتي في نظر بولس وفي نظر معظم الكتاب المسيحيين الأولين، قد بدأ منذ مجيء المسيح. ولا يبقى الدهر الحاضر، الذي تحت شارة الخطيئة، الا الى حين، فان نهايته مقررة وان عربون الدهر الجديد حاضر. فمن المهم اذا ألا يدع المسيحي واقعا سيئا عابرا يملي عليه قاعدة حياته.
يقاوم بولس بحزم تلك الرذيلة التي ستهدد الجماعات المسيحية على نحو دائم، وهي الاعتداد بالنفس والادعاء. ويحث على التواضع والمحبة والخدمة الاخوية. والمسيحيون يؤلفون جسدا واحدا تقوم أعضاؤه بوظائف مختلفة، لكن يجب ألا يحمل هذا التنوع أحدا على الافتخار بموهبته الخاصة. كل شيء يتم في اتحاد المؤمنين، فالتواضع هو القاعدة اذا.
رحمة الله التي نلناها، لا بد أن نعكسها من خلال المحبة. محبة تجاه الاخوة وتجاه كل انسان، محبة صادقة لا مواربة فيها ولا خبث. ولا تكون فقط على مستوى العاطفة ولا بالكلام فحسب، بل تصل الى العمل الناشط. فهناك مسؤولية تجاه جميع الناس، علينا أن نشاركهم في السراء والضراء، وأن نكون مسالمين في علاقاتنا مع الآخرين، والى ممارسة الغفران، والى محبة الأعداء.
يوحنا 7/ 35-52؛ 8/ 12-20
وهنا الرحمة متجسدة في يسوع الذي يوجه الى أورشليم نداءاته الكبيرة من أجل الخلاص. ويعلن نفسه نبعا للماء الحي ونورا للعالم ويقول عن نفسه “أنا هو”، أي الله.
في النص نميز أمرين: يسوع ينبوع الماء الحي؛ ويسوع نور العالم. ولفهم النص يجب أن نعرف شيئا عن عيد المظال، الذي كان بالأصل عيدا زراعيا في الحقول، وكان يحتفل به في شهر أيلول، شهر قطاف العنب والزيتون، على امتداد 8 أيام. ولكنه صار عيدا مرتبطا بالهيكل وله معنى مشيحي قوي. بالنسبة الى المراسيم تشير الى صب الماء عند المذبح (7 مرات في اليوم السابع من العيد). نتذكر هنا زكريا الذي يتنبأ بمياه حية جارية من أورشليم (14/ 8)، وحزقيال الذي رأى مياها تنبع من الصخرة تحت الهيكل (47/ 1). فيسوع ينادي الآن أن المياه الحية تجري من بطنه هو، كونه الهيكل الجديد. اذن الماء الخارج من يسوع هو رمز الكشف الالهي الذي يأتي به يسوع. وهو كذلك الروح الذي يعطيه يسوع لكل من يؤمن. وفعلا في حين موت يسوع (ساعة تمجيده) يسلم يسوع الروح ويخرج الروح من بطنه بشكل ماء.
هناك طقس آخر في عيد المظال: ففي ساحة النساء كانت توقد مشاعل كبيرة يظهر نورها في المدينة كلها. فيقول يسوع الآن انه هو النور، وليس نور اسرائيل فقط، بل نور العالم. مرة أخرى بمعنى: الكشف الالهي الحاسم. سوف يتجلى هذا المعنى في قصة الأعمى من بطن أمه (يو 9). رد فعل من الفريسيين بخصوص شهادة يسوع يمكنه من أن يشير الى الله أبيه الذي يشهد معه. ان الانجيلي لا يتعب من القول ان يسوع لم يأت ليدين. انه جاء كفرصة أخيرة للحياة. وأما الذي لا يؤمن به فيدين نفسه.
ازاء يسوع اختلفت ردود الأفعال، فالبعض من الجمهور يرون يسوع نبيا مثل موسى، آخرون يفتكرون أنه المشيح. في هذين الفصلين 7 و 8 جمع يوحنا البراهين الهامة ضد مسيحانية يسوع وحاول الرد عليها. وفيها نكتشف ضياع البشر أمام سر يسوع. يقدر الناس أن يعرفوا أصله البشري، ولكن يسوع يحيلهم دوما الى علاقته الحميمة مع الآب، التي هي أساس رسالته. وهذا الكلام الذي يدل على حرية يسوع تجاه الشريعة، يجعله في مواجهة مع السلطات اليهودية التي تعتبر أنها وحدها تمتلك مفتاح تفسير الشريعة. وبما أن يسوع لا يقف في خطها، فهي تسعى أن تزيله. بعض هذه الجدالات بين اليهود والمسيحيين تعود الى نهاية القرن الأول. الجميع يعلم أن المسيح انسان. لكنه أيضا ابن الله، وهذا ما يعجز المفهوم البشري عن ادراكه. يعرف اليهود أن يسوع من الناصرة، ولكنهم لا يعرفونه في العمق. لا يعرفون أباه السماوي. وبالتالي انقسم الناس بسبب يسوع. هناك من يؤمنون، وهناك من لا يؤمنون، بل سيحاول البعض أن يقبضوا عليه.
اذا يسوع يقدم نفسه أنه الماء الحي وخبز الحياة. وها هو يعلن أن الحقيقة هي فيه وفيه وحده. وبه تقدم لكل انسان يأتي الى الحب وعطاء الذات، كما فعل هو الذي سمى نفسه نور العالم. ويتوجه هنا الى تلاميذه الذين يسمعونه، والى كل من يتبعه، والى كل المؤمنين على مر التاريخ، ومنهم نحن. على نور المسيح نكتشف وجه الآب، ونكتشف وجه اخوتنا.
على مثال يسوع، الماء والنور في وسطنا والينبوع الحي، يمكننا أن نكون أيضا ينبوع حياة، حين نتحد به، ونصبح نورا حين نأخذ نورنا من الذي دعا نفسه نور العالم، فنشع رحمة الله لكل انسان.